أفسد.. يفسد.. إفسادا
أفسد.. يفسد.. إفسادا
علاء الدين العرابي
عضو رابطة الإسلام العالمية
ما أن انتهى رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات المستشار هشام جنينه من مؤتمره الصحفي ؛ الذي كشف فيه عن بعض جوانب الفساد المالي ، وكشف عن بعض البؤر العتيقة التي يعشعش فيها الفساد ، إلا وجاءه التهديد والوعيد هو ورجاله الشرفاء ، ثم انبرى الإعلام الفاسد ليدشن حملته المسعورة على المستشار ، وبدلا من أن يبحث عن قضايا الفساد التي كشف عنها تناولوا شخصه.
هذا المستشار الشريف الذي يقف وحده الآن شامخا في وسط غابات من الفساد ، وقد خرجت الأفاعي من جحورها بعد أن دخلتها حينا من الوقت في أعقاب ثورة 25 يناير
المستشار جنينة كشف الغطاء عن بعض جوانب الفساد المالي ونحن هنا نسأل : هل الفساد في مصر فساد مالي فحسب ؟ أم أن هناك جوانب فساد أخرى ؟
وإذا كان المستشار قد كشف عن الفساد المالي فمن يكشف لنا عن جوانب الفساد الأخرى التي هي الأخطر والأشد خطرا ؟
قضايا الفساد الأخلاقي الذي طال الإنسان المصري عبر عقود ، وتسبب في خروج المجتمع في مجمله عن الأخلاق .. من الذي يكشفه؟
وقضية إفساد الهوية ومحاولة طمسها الذي صنعه ولا زال يصنعه الفاسدون .. من الذي يكشفه ؟
إن خطر الفساد المالي - رغم بشاعته - محدود الأثر ، فدائرته المال ، وجريمته محصورة في سرقة شعب ، أو اغتصاب حقه ، أو حقوق بعض أفراده ، وأثره حرمان المسروق من لقمة عيش نظيفة كانت تتهيأ لتلقى في فمه ، أو حرمان طفل من حقه في مأوى يؤويه ، أو كساء يحميه برد الشتاء ، أو مقعد في مدرسة يتعلم فيها كقرينه في كل دول العالم ، أو في عيش كريم كأولاد الأغنياء
قد يستعين الفقير ببعض الصبر على غلواء الجوع ، بل قد يتصبر وهو يرى السارق يرحل عن الدنيا وقد ترك ما سرق ، ولم يصطحب معه غير جريمته مكتوبة على جبينه
أما خطر الفساد الخلقي فهو الأخطر وأثره يمتد ليشمل المجتمع كله ، ويظل يمتد حتى يطال الأمة فتسقط في مهاوي الردى
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ويكفي أن نعلم أن الفساد المالي هو نتيجة طبيعية للفساد الخلقي ، وأثر من آثاره
وأعلى درجات الفساد وأشدها خطرا على الإطلاق هو إفساد الهوية لأن الفقير قد يجد من يقاسمه رغيف خبز ، أو يجد المسروق ما يعوضه عما سرق منه ، وسيء الخلق قد يجد من يعيده إلى جادة الصواب ، أما فاقد الهوية لا يجد من يقاسمه هويته أو يجود عليه بفيض انتماء ، فيظل كاللقيط بلا مأوى ولا قرار
*** أفسد .. يفسد .. إفسادا ***
نعبر عن الفساد المالي بالفعل الماضي " أفسد " أو " سرق " وهو أفضل ما يعبر به عن الفساد المالي أو السرقة ؛ لأنه كما يقول الفقهاء لا تثبت السرقة إلا إذا انتقل الشيء المسروق إلى حرز السارق وبالتالي يصبح الفعل في الزمن الماضي ..
كما نعبر عن الفساد الخلقي بالفعل المضارع " يفسد " لأن حالة الفساد الخلقي حالة مستمرة ، ولأنه لا يمكنك أن تفسد خلق إنسان من مرة واحدة ، أما قضية الهوية فلا نجد لها إلا المصدر لنعبر به عن بشاعة الفساد فنقول " إفساد " الهوية
بعد ذلك .. تعالوا لنرى من هم أبطال أفلام الفساد في القضايا الثلاثة
أبطال فيلم الفساد المالي هم رجال الأعمال وأصحاب النفوذ الفاسدون ؛ الذين سرقوا أموال الفقراء واستحلوا اغتصاب مقدرات شعب
أما أبطال فيلم الفساد الخلقي فدائرتهم أوسع .. فمنهم الإعلامي الذي يقلب الموازين فينشر الفسق على أنه فضيلة ، ومنهم الفنان الذي يبيع للناس المجون والعهر باسم الفن ، ومنهم العالم أو الداعية الذي لا يستطيع أن يبين مواطن الخلل والفساد ، ويسكت حين يكون السكوت جريمة لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس ، ومنهم الأب أو الأم اللذين تركا أبنائهم نهبا لكل هؤلاء دون أن يضيئوا لهم طريقا أو يردوا عنهم وحوش الظلام
أما أبطال فيلم " إفساد الهوية " فهم الأخطر لأن مهمتهم هي الأشد خطرا ، هؤلاء هم أصحاب السلطان الذين فقدوا هويتهم ثم سعوا في إفقادها لشعوبهم ، فكما يقال : الناس على دين ملوكهم ؛ هؤلاء هم صنيعة المستعمر الذين تعلموا في مدارسه أن هوية الأمة هي أي هوية غير الإسلام
يشترك مع أصحاب السلطان زمرة من الفاسدين ، هم من يسمون أنفسهم " بالنخب المثقفة " ، هؤلاء قد نجدهم في إعلام قد فقد بوصلته ، أو نجدهم بين أدعياء الفن ، أو نجدهم بين أدعياء الفكر والثقافة ، هؤلاء تنازلوا عن هويتهم سلفا ثم مضوا في طريقهم كي يعروا المجتمعات عن هويتها ، هؤلاء يتسموا بأكثر من مسمى ، فأحيانا يسمون أنفسهم " علمانيون " أو " ليبراليون " أو " يساريون " أو " فنانون " أو " مفكرون " أو " متحررون " أو غير ذلك
لذلك لا نعجب إذا وجدنا أن من يقود الثورة المضادة الآن في مصر هم طائفة من كل هؤلاء ، من أصحاب الفساد المالي وأصحاب الفساد الخلقي ، وعلى رأس هؤلاء صاحب السلاح الذي باع هوية الوطن بكرسي أو متاع ، ونجده وقد اصطف حوله وخلفه العلمانيون واليساريون اللذين يحاربون علنا الهوية الإسلامية والمشروع الإسلامي ، وينضم إليهم الفنانون الذي يقدمون العهر على أنه الفن ، والمفكرون الذين وقعوا في معسكر التغريب ، ولا نستغرب إن كان من بين هؤلاء أصحاب عمائم ولحى باعوا دنياهم بدنيا غيرهم وباعوا هوية أمتهم بعرض من الدنيا
من هنا لابد أن ندق ناقوس الخطر فالحرب القائمة في منطقتنا العربية هي حرب على الهوية بالدرجة الأولى ، وهذه الحرب قد بدأت مبكرا منذ سقوط الكيان الذي كان يحمي الهوية الإسلامية وهو الخلافة ، حينها بدأ الاستعمار يرسم لنا هوية جديدة في إطار ما يسمى بالقومية والوطنية ، ثم رحل وجاء برجال يكملون المهمة ، ثم لاحت الصحوة الإسلامية في الأفق رغما عنهم وتبعها ثورات الربيع العربي ، فتنادى الغرب وإسرائيل " احذروا حكم الإسلاميين " " احذروا المشروع الإسلامي "
هي إذن حرب بين ثورات تحاول أن تعيد الأمة إلى هويتها ، وتقيم حكم رشيد بلا فساد خلقي أو مالي ، وبين ثورات مضادة يقف من وراءها الغرب بكل قوته من أجل طمس الهوية ، مستغلين بعض أطماع وأحلام المنتفعين من بني جلدتنا ؛ الموسومين بالفساد الخلقي والمالي حتى تظل الأمة في غياهب التخلف وتكون النتيجة هي التسول والضياع.