قال لي صاحبي وهو يحاورني لو قدر لي أن أعيش تجربة حياتي مرة أخرى
قال لي صاحبي وهو يحاورني لو قدر لي أن أعيش تجربة حياتي مرة أخرى لاخترت مسارا غير المسار الذي مررت به فقلت له أما أنا فلن أرضى عنه بديلا
جمعني لقاء مع أحد الأصدقاء ، وخضنا في موضوع ظلم الأقارب ، فقال بمرارة وهو يسرد علي بعض ما لقيه من بعض أقاربه من ظلم : لو قدر لي أن أعيش تجربة حياتي مرة أخرى بعد الستين التي عشتها لاخترت مسارا غير الذي مررت به ، ولكان تصرفي مع قرابتي الظالمة لي غير ما تصرفته معها ، فاختلفت معه في وجهة نظره وقلت له : أما أنا فلن أرضى بديلا عن المسار الذي مررت به حلوه ومره بل لو قدر لي أن أعيش تجربة حياتي مرة أخرى لعشتها بلهف ولذة حتى تلك التي عانيت منها الأمرين .
ومعلوم أن الإنسان وقد حجب عنه الله عز وجل علم المغيب من الأمور رحمة به يقتصر علمه على ما يشاهده في عالم الشهادة ، لهذا قد يحزن لما أخفى عنه الله عز وجل ما فيه من خير يناله ، وقد يفرح لما أخفى عنه من شر يصيبه ، ولا يفعل الله عز وجل إلا خيرا به .
ولو قدر لنبي الله موسى عليه السلام أن يعلم ما غيبه الله عز وجل عن علمه من أمر السفينة والغلام والجدار كما جاء في سورة الكهف لما أنكر على العبد الصالح خرق السفينة، ولا قتل الغلام ،ولا إقامة الجدار الموشك على الانقضاض ،وقد كشف الله عز وجل للعبد الصالح من أمرها ما لم يكشفه لنبيه موسى عليه السلام وهو كليمه .
ومعلوم أن أحوال جميع الناس مع ما غيب الله تعالى عنهم كحال نبيه موسى عليه السلام ، ولو كشفت لهم حجب الغيب عما ينكرون وقد جعل فيه الله عز وجل خيرا لما أنكروا من ذلك شيئا ، ولرضوا بما قضى الله عز وجل وما أخفاهم عنهم .
إن الإنسان لو قدر له أن يعيش الحياة التي حييها مرة أخرى لتصرف كما تصرف نبي الله موسى عليه السلام بعدما نبأه العبد الصالح بما لم يستطع عليه صبرا . وإن الإنسان الذي يمر بضيق وشدة ينال منه اليأس والحزن ، ولكنه لو أعيد ثانية ليمر بنفس الضيق لمر به بغير النفسية التي كان عليها أو مرة، لأن بعد مرور ظرف الضيق والشدة صار له شأن آخر، وربما كان فيما اعتقده أول الأمر ضيقا وشدة خير له ، لهذا لو قدر له أن يعيش تجربة الضيق والشدة مرة أخرى لعاشها وهو مطمئن بما وراءها من خير لم يكن يعلمه يوم عاشها أول مرة .
وكل إنسان قد يفرح على سبيل المثال أشد الفرح بمعرفة أصدقاء ، ويظن بهم الخير، ولكنه يخيب ظنه فيهم فيندم على معرفتهم أشد الندم ، وعلى الثقة التي وضعها فيهم ، ولو قدر له أن يعيش تلك التجربة مرة أخرى لما ندم أو لعاشها مطمئن القلب ، لأنه يكون على يقين تام بحصول خيبة ظنه فيمن أحسن بهم الظن.
وكل إنسان قد يضيق بمعرفة من لا يرضاهم أصدقاء أول الأمر ، لكنه يتبين له فيما بعد أنهم أهل للمعاشرة والمصاحبة ، ولو قدر له أن يعيش التجربة مرة أخرى لأخلص لهم الود من أول لحظة ولم يتردد في ذلك ، و لسعد بمعرفتهم أشد السعادة ،لأنه يكون على يقين تام باستحقاقهم المصاحبة والمعاشرة والمحبة وإخلاص الود .
وإن القدر خيره وشره بيد الله عز وجل ، والخير فيهما معا إلا أن ما قد يبدو للإنسان شرا بسبب حجب ما غيب الله عنه قد يكون فيه خير له لا يدركه إلا بعد كشف حجب الغيب عنه، كما أنه قد يبدو له خيرا وهو ليس كذلك حين كشف حجب الغيب عنه . والمؤكد أن الإنسان يمر بما قدر الله عز وجل له ، وعليه أن يستيقن أن ما أصابه ما كان ليخطئه ، وما أخطأه ما كان ليصيبه ، ولا يصيبه إلا ما كتب الله له ، وفي كل ما يصيبه خير له، لأن الله عز وجل خلقه ليكرمه لا ليهينه ، ولئن أهين فمن نفسه لا من خالقه جل شأنه .
والذي يؤكد أن الإنسان لو قدر له أن يعيش تجربة حياته مرة أخرى هو حرصه الشديد على سرد ذكرياته الماضية، وحفظ صوره وأشرطته واستعراضها بين الحين والآخر مع الحنين إلى ما تختزله من أحداث سعد بها في حينها كأعياد ميلاده، ومناسبة قرانه ،ومناسبات فوزه ... وقد يتجدد حزنه وهو يستعرض منها ما يختزل ظروفا صعبة مر بها، لكنه لا يمكن أن يعيش نفس حدة الحزن التي عاشها أول مرة ، وقد لا يحضره حزن إطلاقا بل قد يتحدث عما مر به حديث من لم يتأثر بذلك أدنى تأثر .
وأخيرا على كل إنسان أن يحمد خالقه سبحانه وتعالى على ما قدر له ، وما يقدر له سبحانه إلا الخير طلما ظل على طاعته . ولو قدر لمن ماتوا شهداء أن يعيشوا مرة أخرى تجربة الشهادة لما ترددوا في ذلك لما وجدوه بعد الشهادة من سعادة أبدية في رياض الجنان ، وهي حال كشف الله عنها في محكم التنزيل لتثبيت أفئدة من قدر لهم الشهادة في سبيله .
وسوم: العدد 816