دروس من الثورة المباركة

دخلت ثورتنا السورية عامها التاسع، ولمّا تنقضِ عجائبها، ولما تنتهِ دروسها بعد...

فهي الثورة الكاشفة؛ إذ ساعدتنا في اكتشاف من نحن؟ وأين نحن؟

فالثورات بالذات خير ما يعرفك بالذات. ومعرفة الذات هي البداية الحقيقية للانطلاقة الحضارية المنشودة.

فمعرفة أين نحن؟ وأين ينبغي أن نصل؟ تساعدنا كثيرًا في وضع الخطط الذاتية المُحكمة، ورسم استراتيجيات التغيير المطلوبة...

 قال تعالى: 

 (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ). 

   فالثورة السورية ساهمت كثيرًا في فضح النفاق والمناقين، والباطل والمبطلين، والفساد والمفسدين...

قال تعالى:

 (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

وكلنا شاهد كيف تساقطت الأقنعة المزيفة عن الوجوه القبيحة، قناعًا بعد قناع، وكذلك شهِدنا تساقط العمائم الملوثة الخانعة الخائنة، عمامةً بعد عمامة، وتساقط الخطاب الإعلامي المأجور والمقهور والمغرور؟

وشاهدنا كيف تساقط من ادعوا بالأمس زورا وكذبا بأنهم أصدقاء الشعب السوري، ورأينا كيف تحوّلوا عن موقفهم، فبدلوا جلودهم، وغيورا أقوالهم، وأظهروا حقدهم ونفاقهم؟!!

وشهدنا كيف تساقطت الشعارات الفارغة، وما يسمونه بحقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها؟!!

وشاهدنا السقوط الأخلاقي للدول العظمى التي لا تنظر إلاّ في مصالحها، ولو على حساب دماء الأبرياء، وأموال الفقراء، ودموع النساء؟!!

وهي ثورة قدرية؛ فمن كان يظنّ أن تقومَ في مثل هذا البلد هكذا ثورة؟!

فالله عز وجل هو الذي أخرجنا ثائرين، واختارنا أن نكون في صفّ الحق -صفِّ الدفاع عن المظلومين- ضدّ الظالمين.

قال تعالى:

(كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ).

   فالله هو الذي أخرج نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، للقتال يوم بدر، وهو الذي أخرجنا في ثورتنا كذلك.

فالمؤمنون يوم بدر أرادوا ملاقاة القافلة التجارية -عِير قريش- أرادوا بعض الغنائم؛ يستعيدوا بعض أموالهم التي تركوها غنيمة سهلة لقريش، وأراد الله أن يؤدّب بهم الجزيرة العربية كلها.

أراد أن يقهر الطغاة والبغاة والمتكبرين...

أراد أن يكسّر رؤوسهم، ويرغم أنوفهم، ويهزم جيوشهم، ويحطّم باطلهم...

 أراد أن يُظهر الحق وأهله، على الباطل وأهله.

 قال تعالى:

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) الأنفال.

   وأردنا في مستهلّ ثورتنا إصلاحات جزئية صغيرة، ثم أصبح طلبنا ضئيلًا محقورًا وهو إسقاط بشار الأسد ونظامه، وإذا بنا نسقط عشرات بل مئات الأدوات التي يستخدمها عدوّنا الأكبر، وما بشار الأسد إلا أداة حقيرة رخيصة من أدواته التي يستخدمها إلى أجل محدود، ثم يتلفها ويلقيها في مزابل التاريخ.

    هي ثورة منصورة بإذن الله؛ فاستمرارها طوال هذه المدة جعل العدو الماكر الغادر يُفلس من كلّ أدواته، وينسلخ من سائر أقنعته، وأصبح مفضوحًا أمام الشعوب المتعطّشة للحرية، التائقة للانعتاق من أسر الأوهام، وطغيان الحكام، وتحكم الجهال والأرذال...

وأصبح الباطل المفضوح وجهًا لوجه أمام الحق الصريح، ولن يصمد الباطل أمام الحق طويلًا.

فاستمرار الثورة طوال هذه المدّة ليس هزيمة كما يسوق لها الكثير من الجهال، بل هو نصر كبير، فالثبات في حدّ ذاته نصر. طالما استخدم أعداؤنا كل هذه الوسائل الغير مشروعة والغير أخلاقية.

 استخدموا كلّ الأسلحة المحرّمة والفتّاكة استهدفوا كل مقومات الحياة..

بينما إرادتنا هي هي ثابتة لم تتغير ولم تتبدل، وها نحن نواصل المسير حتى التحرير لن نقف ولن نرجع إلى الوراء.

    هي ثورة تحضيرية: لقد داهمتنا ثورات الربيع العربي ولم نكن على استعداد لها، ولم تكن النفوس مهيأة لهذا التغيير الذي انهمر فوق الرؤوس جميعًا، ولمّا تكن لنا رؤية واضحة، ولا منهجية علميّة راسخة؛ وبما أنّه لم تكن لنا خطّة واضحة؛ رهنّا أنفسنا سنينا عديدة لتنفيذ مخططات الآخرين.

والثورة الناجحة هي تلك التي تكون ذاتية الإدارة، ومستقلّة الإرادة، وبالتالي تقوم علاقات أبنائها الثائرين مع الآخر الحضاري؛ على الندّية، وعلى تقاطع المصالح، فالمبادرات يجب أن تكون ذاتية تنطلق من مصلحة الثورة...

فهذه الجراح والآلام التي عشناها، إنما هي نوع من أنواع التحضير الإلهي والإعداد الربانية لمعركة قادمة حاسمة، فالإعداد الكبير الطويل الأمد يساعد في حسم المعركة بسرعة أكبر، وكلما زاد أمد الإعداد، كلما حُسمت المعركة بشكل أسرع. "فالقادم أعظم لكنه أحسن". 

     وهي ثورة الأمل: فهذه أمم جبارة وجيوش جرارة وترسانات عسكرية هائلة، وإمكانات تقنية ومادية عالية، انقضّت على هؤلاء الثائرين، لم تراع حقوق الإنسان ولا العمران ولا الحيون، ويضاف إلى هذا كلّه تلك الترسانة الإعلامية الضخمة والماكرة التي لا تقلّ أثرًا عن هذه الجيوش.

 هدفها الأكبر: حصار الأمل في قلوب الثائرين، كي يستسلموا!

ولقد رأينا من ضحاياه الكثير من رجالات ثورتنا فضلًا عن غيرهم، فقد رأينا اليأس والقنوط في وجوه المفكرين، ورأينا كذلك الشحّ والجفاف في جيوب الداعمين، ورأينا أعدادًا هائلةً من المنهزمين والقاعدين...

 بيد أن هذا الشعب الجبار كلما فُتن وتعرّض للابتلاء والاختبار، كلما زاد جوهره النفيس لمعانًا وبريقًا، فالخير الباقي فينا يكفينا بل يحيينا... ما دام الروح طموح والقلب يفيض يقينا.

ويقيننا بأن هذه الدماء الزكية الطاهرة لن تذهب هدرًا، ولن تضيع سدى...

ويقيننا بأن هذه الأحزاب الظالمة والجموع الغاشمة، ستنهزم وتندحر على أعتاب ثورتنا المباركة...

ويقيننا بأنهم سيرحلون ويهزمون، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ

قال تعالى:

(أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)

    فما اجتمعت هذه الدول بقضّها وقضيضها لولا أن هذه الثورة قويّة إلى حدّ يجعل من هؤلاء يجيّشون لها كل هذه الجيوش، ويحشدون ضدّها كلّ هذه الحشود، ويبذلون في سبيل إخمادها كل هذه الأوقات والأموال والجنود...

فكلما تعاظم الزبد وازداد حجمه، كلما دلّ على قوّة السيل الجارف الذي يحركه ويجرفه... وسوف يجرف ظلمهم وبغيهم ومكرهم وكيدهم...

وسوف يرحل الظالمون بكل أشكالهم وألوانهم وجنسياتهم... (َفأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)

 فهذه سنّة الله في إزهاق الباطل والمبطلين، وهي سنّة ماضية ثابتة مطّردة لا تتبدّل ولا تتحول ولا تحابي ولا تجامل...

(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)

قال تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)

فباطل الأعداء سيزهق لا محالة، لكنه مرتبط بمجيء الحق وأهله، فإذا كنا أهلا لحمل هذا الحق فحينئذ يتنزل النصر.

وهذا الأمر يتطلب منا أوبة إلى الله قال تعلى:

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)

والتوبة هنا توبة جماعية، توبة أحزاب وفصائل وكتائب، توبة مؤسسات ومنظّمات وجمعيّات اقترفت الأخطاء في حق الثورة، والتوبة هنا تعني تصحيح مسار الثوار من سياسيين، وعسكريين، وإعلاميين، وحقوقيين...  

   ويبقي السؤال المحوريّ لماذا تأخر النصر؟

يجيبك على هذا الشهيد سيد قطب رحمه الله عند تفسير قوله تعالى:

 (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِير) ٌ

 أنقل عنه قوله بتصرّف:  

   قد يتأخر النصر على الذين ظُلموا وقُتّلوا وأُخرجوا من ديارهم، لحكمة يريدها الله.

فقد يبطئ النصر لأن بِنية الأمة لم تنضج بعد نضجها، ولم تتحفّز كل الإمكانات والاستعدادات والقوى فيها، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكًا؛ لعدم قدرتها على الاحتفاظ به.

وقد يبطئ النصر لأن الأمة لم تَصلُح بعد لاستقبال الحقّ والعدل والخير الذي من واجبها تحملّه ونشره والقيام بأعبائه، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة كبيرة بحيث لا يقرّ لها قرار. فيستمرّ الصراع حتى تتهيأ النفوس لاستقبال الحق والقيام بالقسط.

وقد يبطئ النصر حتى تجرّب الأمة آخر ما في طوقها، فتدرك بأن هذه القوى وحدها لا تكفي لتحقيق النصر، فتردد بيقين كامل، واستسلام تامّ: يا الله مالنا غيرك يا الله.

قال تعالى:

 إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

فإذا أدركت النفوس هذه الحقائق الكبرى، وهذه المعاني الإيمانية الجليلة فحينئذ يتنزل النصر.

 فتسليط الأعداء علينا في هذه الجولة ليس تسليط استئصال، إنما هو أذى رغم كلّ الجراحات والآلام الكبيرة...

 قال تعالى: 

(لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ)

 وما إخفاقنا في هذه الجولة إلا لحِكم كثيرة يريدها الله قد ندرك بعضها ويغيب عنا الكثير...قال تعالى:

 (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) ...

وسوم: العدد 816