جدلية الأزمنة الثلاثة
المعني بالأزمنة الثلاثة هنا ، هو الماضي والحاضر والمستقبل ، بينما تشير العلاقة الجدلية الى عملية التفاعل والتداخل والتكامل والتفاضل بين هذه الأزمنة الثلاثة ، بما يسمح لنا أن نقول أن الحاضر هو ابن الماضي وابو المستقبل ، أي أن الحاضر يحتضن بين دفتيه كلاًّ من الماضي والمستقبل في آن واحد . هذا وغالبا ماتنطوي هذه العلاقة الجدلية بين هذا الثلاثي ، على إشكالية " التغليب " ، وخاصة فيما يخص العلاقة بين الحاضر والماضي . وبما أن الكاتب ليس مؤرخاً ، وإنما هو باحث سوسيولوجي ، فقد وجد أن هذه العلاقة الجدلية بين مثلث الماضي والحاضر والمستقبل ، قد تجلت على المستوى العملي في عدد من الفتن ، التي أصابت المسلمين عامة والعرب خاصة في مقتل . والتي لعبت العصبية القبلية والشعوبية دوراً بارزاً فيها ،وذلك على حساب مبادئ الإسلام وقيمه العليا ، المثبتتة في القرآن الكريم ، والتي تمثل تجاوزاً إجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً ، لهتين العصبيتين السابقتين على الإسلام ، وأوصلتنا ( الفتن ) بالتالي إلى الوضع المأساوي الذي نحن عليه الآن . وسوف نمر هنا مرورا عابرا على أبرزهذه الفتن ، لنتوقف عند أخرها ، ألا وهي الفتنة الطائفية التي ترتبت على ظهور جمهورية ولي الفقيه الإسلامية1979 ، والبعد الشعوبي لهذه الجمهورية :
1. لقد مثل مقتل الخليفة الراشدي الثالث عثمان ابن عفان (رضي) ، بداية الفتن ، ذات البعد القبلي ، والتي ، أدت إلى حرب صفين بين الإمام علي ( الخليفة الراشدي الرابع ) ومعاوية بن أبي سفيان والي دمشق آنذاك ، والتي انتهت ، بانتقال الخلافة من الهاشميين إلى الأمويين ، بعد مسألة التحكيم عام 41 للهجرة / 662 م وتعتبر هذه الفتنة تاريخياً " الفتنة الكبرى " ، في التاريخ الإسلامي ، والتي مازلنا نحصد مفاعيلها السلبية حتى اليوم .
2.وتمثلت الفتنة الثانية ، في توريث معاوية ابنه يزيد لخلافته ، مبتعداً بهذا عن قيم الإسلام وأخلاقياته السياسية المبنية على الشورى ، استناداً إلى النص القرآني ( وأمرهم شورى بينهم – الشورى 38) ومقترباً إلى العصبية القبلية ، ومتجاوزاً العرف الإسلامي الذي رسخه الرسول نفسه ، ومن بعده ، خليفتاه أبو بكر وعمر.
3.وتمثلت الفتنة الثالثة بالصراع بين ابني هارون الرشيد ( الأمين والمأمون ) والذي تحول من صراع سياسي – ديني الى صراع قومي- ديني مختلط بين خليفة بغداد ( الأمين) ابن زبيدة العربية ، وواليه على إقليم خراسان ( أخيه المأمون )ابن الجارية مراجل الفارسية (إحدى جواري أبيه الرشيد )، والذي انتهى بانتصار جيش المأمون على جيش الأمين ، ومن ثم مقتل الأمين على يد أنصار أخيه من الخرسانيين عام 195 هج ، وتولي المأمون مركز الخلافة في بغداد ،
4.وتمثلت الفتنه الرابعة ، في محاولة التيارالفارسي بقيادة أبي مسلم الخراساني ،وهو من أوصل المأمون إلى كرسي الخلافة بعد قتل أخيه الأمين ، الهيمنة على الخلفاء العباسيين ( العرب ) وتوجيههم بالإتجاه الذي يرسمونه لهم . وعندما تنبه الخلفاء العباسيون لهذا الدور الخفي الذي يلعبه المسؤولون الفرس المحيطون بهم ، كأبي مسلم الخراساني ، والفضل بن سهل والبرامكة ، قاموا بتصفيتهم ، كل هذا وما زلنا في القرن الثاني الهجري . وعلى بعد أمتار فقط ، من مركزالخلافة العباسية في بغداد .
5. وبوصولنا إلى الفتنة الخامسة ، والأخيرة في هذه المقالة ، والتي تمثل بنظرنا ، الفتنة الكبرى الثانية في الفضاء الإسلامي ، ألا وهي ، الفتنة الطائفية - الشعوبية ، في القرن الواحد والعشرين ، لجمهورية آية الله الخميني الإسلامية في طهران . والتي قلنا أننا سنتوقف عندها قليلاً ، وذلك للوقوف على البعد الطائفي – الشعوبي لهذه الجمهورية الإسلامية التي يعود تاريخ ولادتها إلى عام 1979 م .
وقبل أن نتغلغل في أبعاد هذه الفتنة الطائفية ، لابد من التفريق بداية بين الإنتماء الديني والانتماء الطائفي ، من حيث أن الأول عام والثاني خاص ، وبحيث أن الإنتماء الديني يشير الى القاسم المشترك بين جميع الطوائف ، التي تكون محسوبة على هذا الدين رغم انشقاقها عنه . فالشيعة الإثني عشرية - على سبيل المثال لا الحصر - رغم الاختلاف البيّن بينهم وبين السنة ، إلا أن مقولة ( لا إلاه إلا الله ، محمد رسول الله ) ، التي يُؤْمِن بها الطرفان ، والتي تعتبر المؤشر الأكبر على الإنتماء الى الدين الإسلامي ، تظل تجمعهما في إطارنفس الدين رغم الخلاف والاختلاف بينهما ( السنة والشيعة )حول مسألة خلافة الرسول (ص) بعد وفاته.
إن الإنتماء الطائفي ، وبالرغم من حبل السرة الذي يربطه بالدِّين الأصلي الذي ، خرج منه ، أو خرج عليه ، غالباً ماتكون له أسباب وجذور سياسية واجتماعية ترتبط بالتاريخ وبالجغرافيا معاً . ترتبط بالماضي وليس بالحاضر فقط . ومن هنا ، رأينا الترابط بين الطائفية والشعوبية في المذهب الشيعي ، سواء على مستوى التاريخ ، أو على مستوى الجغرافيا ، حيث تعود جذوره ( الترابط ) التاريخية ، الى نهاية العصر الأموي ، وبداية العصر العباسي (انظر ، الدكتور عبد العزيز الدوري ،الجذور التاريخية الشعوبية ، دار الطليعة بيروت ، 1981 ، الطبعة الثالثة ، ص9) ، أي عملياً إلى المرحلة التاريخية التي كان فيها الإنتماء إلى الإسلام مايزال يمثل الإنتماء الرئيسي للجماعة الإسلامية ، وليس أي إنتماء آخر، كالإنتماء القومي أوالطائفي أو القبلي .
إن مانرغب الإشارة إليه هنا أمران : الأول هوأن العصبية القبيلية التي أطلت برأسها بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، قد تم ترسيخها على يد معاوية بن أبي سفيان ،عندما تجاوز مبادئ وقيم الإسلام في الشورى ( وأمرهم شورى بيتهم ) وورث إبنه يزيد الخلافة ، وتابع يزيد ومن جاء بعده هذا الطريق القبلي ذي الرائحة الجاهلية .أما الأمر الثاني ، فهو ذلك الترابط بين الطائفية والشعوبية في سياسة وسلوك الجمهورية الإسلامية الخمينية في إيران اليوم ، والتي لايختلف تصريح مسؤوليها الحاليين، العسكريين منهم والمدنيين ، في افتخارهمبأنهم باتوا يحكمون اليوم أربعة عواصم عربية ،( يشير الضمير المتصل " هم " هنا إلى كل من النظام السوري وحزب الله والحوثيين في آن واحد )عن افتخار أبو اسحق الأصبهاني الملقب بالمتوكلي ، في القرن الثالث الهجري ، في أنه سيعيد مجد فارس بحد السيف ، بما يشير ضمناً الى رغبته في العودة إلى الوثنية . يقول أبو اسحق :
فإني سأ علو سرير الملوك بحد الحسام وحرف القلم
فقل لبني هاشم أجمعين هلموا إلى الخلع قبل الندم
فعودوا إلى أرضكم بالحجاز لأكل الضباب ورعي الغنم
وعن تقليل ابو نواس من شأن العرب ، ًبالقول :
يبكي على طلل الماضين من أسد لا درّ درك قل لي من بني أسد؟
ومن تميم ومن قيس ولفهما ليس الأعاريب عند الله من أحد
نعم ، إن الطائفية بنت الشعوبية ، وإن الحاضر ابن الماضي وإن المسافة التي تفصل أوتربط بين كل منهما ( الطائقية والشعوبية ) وبين مبادئ وقيم الإسلام الصحيح هي واحدة ، بالرغم من بعض المظاهر الشكلية المتعلقة باللباس والتسميات وغير ذلك ، والتي يحاول بها بعض رجال الدين ( أيات الله ) إخفاء هذه العلاقة وفق مبدأ " التقية " المعروف . ومن الإنصاف القول هنا ، أن الأمرالمتعلق بالمظاهر ينطبق أيضاً على بعض رجال الدين السنة ، الذين يحاولون إخفاء جهلهم بالتعاليم الصحيحة للاسلام ، تحت هذه المظاهر الشكلية المعروفة . والله أعلم .
وسوم: العدد 816