الشيخ البوطي ومحمد ناصيف ونقولا حنا
ما الجامع بين هذه الأسماء؟! انتظروا قليلاً.
أما الشيخ البوطي فهو العالم الفقيه الأصولي... الذي كان منه ما كان. وأما محمد ناصيف فهو ضابط المخابرات الذي كان رئيساً للفرع الداخلي يوم كان برتبة نقيب أو رائد، وكان لهذا الفرع الملعون والعاملين فيه جرائم بحق المعتقلين عندهم لا سيما منذ نيسان 1979م، ثم ارتقت رتبته حتى أصبح برتبة لواء، وكان هو صلة الوصل بين السلطة وبين الشيخ البوطي، وربما بين مشايخ آخرين. فناصيف هذا، وإن كان نصيرياً فإنه نشأ في صغره في مدينة حماة وتعلّم في بعض مدارسها الشرعية فاكتسب ثقافة دينية تجعله أقدر على مخاطبة علماء الدين وخداعهم إذا احتاج الأمر، وكان مثلاً، يحوك المكايد ليُطَمْئن هؤلاء العلماء إلى أن الرئيس وأسرته في غاية التدين! فيطلب من باسل أسد مثلاً أن يتصل بعد منتصف الليل بالشيخ البوطي ليقول له: آسف على إزعاجك يا فضيلة الشيخ في هذا الوقت، ولكني كنت في قيام الليل وحدث معي كذا من الخطأ في صلاتي، فهل صلاتي صحيحة أم لا؟!. وكانت هذه المكيدة ضرورية لتعطي الشيخ فرصة لخداع النفس، فما دام ابن الرئيس يقوم الليل، فهو الشاب الذي نشأ في طاعة الله، وأبوه لا شك في مقام أمير المؤمنين!.
فهل كانت هذه المكيدة تنطلي فعلاً على الشيخ أم أنه كان يتقبلها ليخفف عن نفسه عذاب الضمير وهو يتزلّف للطاغية؟!.
إذاً لننتقل إلى الشخصية الثالثة: إنه نقولا حنا الذي قد يعرف الناس عنه أنه مذيع في إذاعة صوت أمريكا، ويعرف عنه أهله وأصدقاؤه جوانب أخرى. وهو شخصية غنيّة كما سنجد.
كان لي لقاء مع الأستاذ نقولا في سجن الحلبوني أواخر عام 1973م حيث عشنا في غرفة واحدة نحو شهر كامل. إنه فلسطيني الأصل، أقام في سورية، وانتسب إلى حزب البعث، ثم أصبح رئيساً لفرع الحزب في الحسكة. وعندما قام حافظ أسد بانقلابه وأطاح برفاق دربه، نشأت له معارضة في صفوف الحزب، وكان نقولا حنا من المعارضين. ولكنْ ما هي إلا أيام قلائل حتى استتبّ الأمر لحافظ أسد، فتراجع المعارضون عن موقفهم وأيّدوا الانقلاب. أليسوا قد انتسبوا إلى الحزب ليحققوا مصالحهم؟ فلا بأس أن يدوروا مع مصالحهم حيث دارت. لكن اللئيم الزنيم حافظ أسد لم يغفر لهؤلاء الذين عارضوا حركته "التصحيحية" بضعة أيام فبدأ يترصّدهم ثم يتصيّدهم، ويودعهم في سجونه، وكان نقولا من نزلاء الحلبوني.
قلت: إن شخصية نقولا غنيّة بالصفات التي تجعله متميزاً. لقد كان يحفظ القرآن الكريم غيباً، ويراجع محفوظاته دوماً، ويقول: إنه في صغره تربّى في بعض الكتاتيب التي تُعلّم تلاوة القرآن، ولعلّ والده أرسله إليها لتعاطفه مع الإسلام، أو لثقته بأن جو هذه الكتاتيب يضمن للطفل النظافة الأخلاقية، ويقوّم لسانه بأفصح الكلام.
وكبُر نقولا وأصبح يحمل شهادة البكالوريوس في الأدب العربي وشهادة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، وكانت ثقافته العامة واسعة ومتعددة الجوانب، وكان حديثه عذباً، فهو يتصدّر الحديث في كل مجلس، وهو كذلك شاعر مُجيد. وحين أصبح رئيساً لفرع الحزب في الحسكة وجاءت ذكرى المولد النبوي رأى أن يبادر الحزب فيقيم احتفالاً بهذه المناسبة، ويلقي نقولا قصيدة في الاحتفال.
لقد أسمعَنا أبيات هذه القصيدة التي تبلغ نحو سبعين بيتاً من الشعر القوي، وكانت الأبيات الخمسون الأولى إسلاميةً صرفة كالتي تصدُر عن شاعر مسلم ذي عاطفة فياضة، فلما وصل إلى هذا الحد من القصيدة توقف وقال: هنا يبدأ النفاق. وأكمل الأبيات الأخرى، فإذا هي تماماً كما يقول مشايخ السلطة: "رسول الله عظيم، ودينه عظيم، وأخلاقه عظيمة... فإذا أردتم أن تروا ترجمة عملية لهذه العظمة فانظروا إلى شخص حافظ أسد!".
فقلت في نفسي: إذا كان نقولا حنّا يعلم أن هذا الكلام نفاق، فهل يجهل الشيخ البوطي وشيوخ السلطة الآخرون، أن ما يقولونه من تسويغ لجرائم الطاغية، وثناء عليه، وشهادة له أنه يحمي حمى الحق... هل يجهلون أنه نفاق؟!. وإن مَن يقرأ كتب الشيخ البوطي يعلم أن الشيخ صاحب علم وذكاء، لا صاحب جهل وغباء، فهل هو ممن (اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم)؟.
وسوم: العدد 819