دفاعا عن الجزائر

معمر حبار

[email protected]

كان ذلك في يوم من أيام ، جمادى الأولى 1431 هـ، الموافق لـ: أفريل 2010، بالمسجد الأموي الشريف، حيث العلم، والحضارة، و حفدة هارون الرشيد.

 وبمجرد ما سلمت من الصلاة، دنا مني بصمت وهدوء، وهمس في أذني بصوت خافت، هل أنت جزائري؟. قلت والابتسامة تعلو محياي: نعم أنا جزائري.

فرح فرحا شديدا، ثم قال، إنّي عندما أتابع القنوات العربية، أجد صعوبةً في فهم لغة الجزائريين. وتابع حديثه قائلا، أنتم الجزائريون تتحدّثون اللّغة العربية بصعوبة !! ، ولا نفهمها نحن في سورية و المشرق !!.

قلت في نفسي، هذه ليست بداية حسنة، ولا أراها تناسب وأدب الضيافة والزيارة. وبدون أن أشعر، ثارت حميّة الوطن في عروقي، وأنا البعيد عن الأهل و الديار.

قلت له، الرائي الجزائري، لا يُعتبرُ مقياسا للّغة العربية، ونحن نشتكي منه كثيرا، وأنتم كذلك تشتكون من المشهاد السوري. ويكفي أني تابعت خلال زيارتي، محاضرة للأستاذ محمد سعيد رمضان البوطي في جامعة دمشق، حول اللّغة العربية، يشتكي فيها من ضعف لغة المذيعين، والقائمين على القنوات، والصحافة السورية. فنقلت له شكوى العلاّمة محمد سعيد رمضان، من الضعف اللغوي لوسائل الإعلام السورية.

إنّ اللّهجة الجزائرية، لا تختلف كثيرا عن اللّغة العربية الفصحى، وجلّ ألفاظها وكلماتها من اللّغة العربية الفصحى. ثمّ حدّقت النظر فيه، وقلت له، ما رأيك في لهجتي؟. وكنت أتحدّث معه باللّغة العربية الفصحى. فقد تعوّدت الفصحى في أحاديثي اليومية العادية منذ صغري. وأكدت له أن مايسمعه الآن هي لهجتي، وهي اللّغة المستعملة.

اندهش الرجل، واستغرب قائلا: عجيب والله، أهذه لغتكم؟ !. قلت وأنا الواثق الصادق: نعم، ثم أردفت قائلا، إنّني أضعف بكثير من بعض الجزائريين الذين يفوقونني فصاحة، وبلاغة، وحسن نطق، وحلاوة لسان.

أعترف أني كنت أحسن منه، في نطق مخارج الحروف، وسهولة التعبير، وحلاوة الصوت، ووضوحه. وكنت في كلّ مرّة، أنبّهه وأذكّره، أن ما يسمعه هو اللّهجة الجزائرية. وكلّما طال بنا الحديث واشتدّ، إلا وزاد إعجابا. وأقسم أكثر من مرّة، أنّه لأوّل مرة يرى، ويسمع جزائري، يتحدّث بهذه الفصاحة، التي يفتقر إليها هو كسوري.

ولم أتوقف عند هذا الحد، بل قلت، إننا نحن الجزائريين، ننطق الحروف العربية، بشكل سليم معافى، كحرف الذال، والقاف، والجيم. ولم يسعه، إلا أن يوافقني، فيما ذهبت إليه، ولم يكن يصدّق كيف لجزائري، قليل البضاعة في الأدب واللغة، مقارنة بمن هم أفضل منه، يحسن اللّغة العربية، وينطقها نطقا سليما.

ثم انتقل إلى موضوع آخر، وقال: حينما أتابع الجزائريين، أجد فيهم غلظةً وقسوةً في ألفاظهم وتصرفاتهم. وقلت في نفسي مرة أخرى: هذه تهمة لا تقلّ فضاعةً و قساوةً عن الأولى. وتذكّرت أني ضيف في بيت من بيوت  الرحمن، وضيف على إخواني وأحبّتي في سورية العزيزة، فألجمت اللسان.

قلت موضحا، ماتسميه عنفا، هو في الحقيقة نتيجة من نتائج الاستدمار الفرنسي للجزائر، منذ أزيد من قرن و 32 سنة من الزمن.

فجأة، تراجع إلى الوراء، وعلامات الحيرة بادية على نبرة صوته .. كيف ذلك؟. رحت أشرح له، بلغة عربية بسيطة فصيحة، لأنّي في كلّ مرة، كنت أذكّره بأنّ ما يسمعه، هو لهجتي ولغتي. قلت له:

إن الجزائر عاشت  132سنة، تحت الاستدمار الفرنسي، ولا يوجد دولة عربية على الإطلاق، عانت وعاشت ، ماعانته و عاشته الجزائر. فاندهش مرة أخرى، وطلب مني بإلحاح شديد، الزيادة و التوضيح. ولم أتردّد في أن أزيل عنه دهشته، قائلا..

 إن الانتداب الذي عاشته دول المشرق العربي، وسورية كمثال، لم يُحرّم عليهم استعمال اللّغة العربية، لأن الانتداب احتلّ الأرض، وترك لكم اللّغة والعادات والدين، والأخلاق، ولم يمسّها بسوء. بينما نحن في الجزائر، سعى الاستدمار الفرنسي، بكل مالديه، لمحو الجزائر نهائيا من الوجود. فلم تعد هناك دولة اسمها الجزائر.. ولم تعد هناك لغة، اسمها اللّغة العربية .. ولم تعد أخلاقا تسمى أخلاقا إسلامية .. ولم تعد هناك جنسية تسمى جنسية جزائرية. فاستبدل الاستدمار الفرنسي، اللّغة العربية باللّغة الفرنسية، والإسلام بالديانة المسيحية، والدولة الجزائرية بالدولة الفرنسية. ولم تكن الجزائر في المنظور الإستدماري الاستيطاني، غير مقاطعة فرنسية. بمعنى أن الدول التي تسميها فرنسا، بما وراء البحار، كانت أفضل حال من الجزائر من ناحية اللّغة، والدين، والأخلاق، والعادات، والسيادة.

وقلت له، إني رأيت بطاقة التعريف، لأبي و جدي، رحمة الله عليهما، فقرأت في خانة الجنسية باللغة الفرنسية: الجنسية الفرنسية. وكنت يومها طفلا صغيرا، وظننت ظن السوء في البداية إلى أن أدركت فيما بعد، أن الجنسية الجزائرية ألغيت، ولم يعد لها وجود تحت الاستدمار الفرنسي، واستبدلت قهرا وعدوانا، بالجنسية الفرنسية.

وقلت له بلغة عربية فصيحة، لو تعرّضتم لما تعرّضت له الجزائر من المحو والنهب والاستدمار، لأصبحتم في أسوء حال، ولتمنيتم الوضع الجزائري الذي تهاجمونه.

وقلت بنبرة حادّة، ألا ترى معي، أن ما تسمونه العنف الجزائري، له ما يبرره. وقلت له، كان من الممكن، أن تُشكر الجزائر وتُمتدح، لأنّها صمدت في وجه استدمار مستبد، ظالم، غيّر فيها كلّ شيء، وكان عليكم، أن تقفوا إلى جانبها، عوض أن تتّهموها بما ليس من طبعها وذاتها.

قلت له، أنا دائما أقول، إنّ طبيعة الجزائري، لا تسمح بازدهار السياحة وتطويرها. تعجّب و اندهش، ثم قال كيف ذلك؟. شرحت له قائلا، إنّ السياحة تحتاج إلى رقّة، وتنازل، والرضا ببعض مالا يمكن الرضا والقبول به، والجزائري لايستطيع أن يفعل ذلك، انطلاقا من طبعه، الذي تسميه عنيف. ولاحظت في تقاطيع وجهه، و موجات صوته: أنه لم يستوعب ما قلته، فطلب مني الشرح والتفصيل مرّة أخرى.

قلت له بهدوء تام، إن الجزائر هي الدولة الوحيدة التي قامت بالثورة، والثورة أنتجت عقلية ثورية، التي تناهض وتعارض كل ماليس ثوري. والعقلية الثورية لا تستطيع أن تساير الثقافة السياحية التي تتطلب في جزء من جوانبها، المهادنة والرّقة، والتنازل. وأفهمته أن العقلية الثورية، ظاهرة صحيّة، وليست ظاهرة مرضية. وعليكم أن تقبلوها وترضون بها، لأننا نعيش ضمنها، ونتصرّف طبقا لمحيطها، ونسعى لنعزّزها على مرّ الزمن. والعقلية الثورية هي التي طردت فرنسا من أرض الجزائر، وكانت يومها أعتى وأقوى قوة عسكرية .

وفي الأخير، أعدت عليه ماقلته في الأول، أن ما يسمعه مني، هي لهجتي ولغتي. وخلال حديثنا الذي امتد إلى أزيد من ساعة، كان حديثي معه كلّه، باللّغة العربية الفصحى، ولم أستعمل العامية أو اللّغة الفرنسية إطلاقا.

وللأمانة، أعجب السوري كثيرا، بلغتي العربية السليمة، وكان من حين للآخر يقاطعني قائلا أهذه لغتكم؟. أهكذا تتحدثون؟. وكنت في كلّ مرّة أجيبه، بل أنا أضعف الجزائريين، وأجهلهم باللّغة العربية، وأبعدهم عن البلاغة والفصاحة.

وفي نهاية الجلسة، رجوت التوفيق والسداد، لكلّ أشقاءنا العرب جميعا، وأخصّ بالذكر محدّثي السوري على أدبه، والجلوس معي، والاستماع إلي، راجيا أن يحفظ إخواننا العرب قاطبة، وإخواننا في سورية.