على هامش الغزو
نائب رئيس الجمهورية العراقية السابق
الحديث عن غزو العراق عام 2003 حديث ذو شجون، إنها المأساة بعينها، وسيبقى شعب العراق ينوء بحملها لأجيال قادمة من الزمن، لكني أرى في الحدث التاريخي وأقصد الغزو إلى جانب مآلاته الكارثية كمية معتبرة من الدروس المستنبطة التي لابد أنها لفتت انتباه الساسة والمفكرين والباحثين.
لا يكفي الوقوف عند الحدث، بكل ما يصاحب ذلك من مشاعر اللوعة والألم، بل من أجل أن تتحقق الفائدة لابد من تحليل موضوعي مجرد وإسقاط على أرض الواقع، أولا: لاستخلاص العبر على الأقل تحسبا أو تحوطا من الوقوع في فخ جديد يفاقم الحالة الكارثية المتفاقمة أصلا، وثانيا: حتى نساعد في معالجة الآثار الكارثية التي ترتبت على الغزو.
تشكل حلف العدوان عام 2003 على خلفية مزاعم وأكاذيب ترقى أن تكون فضائح أصابت سمعة الإدارتين الأمريكية والبريطانية بمقتل وهما لا زالتا تعانيان من آثار ذلك حتى الآن، مع أن هذا النمط من سلوك الدولتين في إطار السياسة الخارجية ليس هو الأول من نوعه ولن يكون الأخير، وأشك في ظل المعطيات الراهنة أن يشكل ذلك رادعا أخلاقيا يمنعهما من تكرار ذلك مستقبلا.. لذلك أقول ابتداء “الحذر واجب”.
لقد أعلنت الولايات المتحدة هدفا واضحا محددا لتبرير الغزو رغم فقدانه الشرعية القانونية، تمثل في إسقاط النظام القائم آنذاك، ومتى ما تحقق ذلك فإن من المفترض أن يصبح العالم أكثر أمنا… تحقق الأول كما تحقق نقيض الثاني!
واقع الحال، ما لم تعلنه الولايات المتحدة، وهو الجزء الذي تحقق فعلا على الأرض والذي تجاوز إسقاط النظام إلى ما هو أخطر وأكبر، إلى تفكيك دولة قائمة، تسريح جيش وحل أجهزة أمنية، تمزيق النسيج الاجتماعي، التفريط بالسيادة، نهب الموارد، تضييع فرص التنمية، تهجير شعب، احتراب أهلي وفتح الباب واسعا أمام التقسيم…. هذا باختصار مآلات مشروع غزو العراق. ليس افتراضا أو تخمينا وإنما هو الواقع الماثل أمامنا. ومن خلال تجربتي لا يسعني القبول بنظرية أن ما حصل ما هو إلا نتاج أخطاء غير مقصودة ارتكبتها إدارة مبتدئة لا خبرة لها في إدارة العراق في فترة ما بعد انتهاء العمليات الكبرى في التاسع من أبريل عام 2003، بل أقول وأنا مطمئن بأن ما حصل كان عن قصد وتخطيط مسبق.. هي نظرية المؤامرة بكل أبعادها.
حال العراق بات الأسوأ، كما أن العالم لم يعد آمنا كما كان عليه الحال في فترة ما قبل الغزو. لكن المفارقة أن أكثر المتضررين أمنيا خارج إطار الوطن هي الدول العربية ولاسيما الخليجية منها، ورغم أن الإدارة الأمريكية الحالية بنت حملتها الانتخابية على معارضة الإدارة الأمريكية السابقة في موضوع الغزو وإستراتيجياته وأساليبه إلا أنها واقعا أكملت مهمة الإدارة السابقة في تكريس نظام حكم طائفي إقصائي إلى جانب التمكين لإيران.
في يونيو من العام الماضي 2014 سقطت الموصل في قبضة تنظيم الدولة (داعش)، بعد أن كانت استولت على الرقة والحسكة ودير الزور في سوريا، وأعلن البغدادي الخلافة الإسلامية، ما اعتبرته الإدارة الأمريكية تهديدا صارخا للسلم والأمن الدولي، جيشت الجيوش وأرسلت تعزيزات بحرية كبيرة وشكلت تحالف دولي، ورصدت مبالغ طائلة، وخططت لسنوات وربما أجيال من الصراع من أجل القضاء على (الإرهاب)، بل وشرعت فعلا وبدون ترخيص دولي تمطر مناطق مختلفة في العراق وسوريا بسيل من الضربات الجوية… وكان العرب أول المتحالفين.
كأني أرى سيناريو عام 2003 يكرر نفسه، وما يدفعني لهذا الاعتقاد هو التضخيم والتهويل المتعمد، ألم يذكر البعض أننا نخوض الحرب العالمية الثالثة!! بهذه الطريقة يستسلم الجميع للخوف ويسلموا قدرهم للإدارة الأمريكية رغم قناعة الجميع بأن للولايات المتحدة مصالح قد لا تنطبق بالضرورة بل هي تفترق في الكثير من الأحوال مع مصالحنا القومية..؟
مضى العرب في ركب التحالف الدولي عام 2003 بعد أن أسلموا قيادييهم للولايات المتحدة ومنحوها صكا على بياض، وفي ظل سطوة الابتزاز الكبير(من ليس معنا فهو ضدنا) والتخويف الهائل من ظاهرة (صدام فوبيا)… من هذا الذي كان يجرؤ على الكلام؟ لا أحد، مضت الإدارة الأمريكية في مشروعها، والكل واجم يترقب، غزت وقتلت وأسرت وخربت ودمرت وعندما عجزت واضطرت للخروج، فإنها لم تسلم مفاتيح العراق البلد العربي العريق لحلفائها العرب – كما كان يقتضي المنطق – بل سلمته لمن يعاديها ظاهريا وكانت أطلقت عليه (محور الشر) وهي تعلم علم اليقين أنه الأشد عداوة للعرب تاريخيا…إيران. ليصحو العرب بعده متأخرين على وقع تهديدات عنيفة تطرق أبوابهم بشدة في الشمال والجنوب وليدركوا بعد فوات الأوان أنهم في هذه اللعبة كانوا أكبر الضحايا بل من أول من غرر بهم.
التاريخ يعيد نفسه، الولايات المتحدة تقود قطار الحملة للقضاء على تنظيم الدولة (داعش)، العرب مجرد ركاب في القطار قطعوا التذاكر لكنهم لم يسألوا عن المحطة النهائية التي يهدف إليها القطار. الغموض يلف خطط البيت الأبيض حتى بالنسبة للمشرعين الأمريكان، عدا الضربات الجوية التي يتفق الجميع بعدم جدواها وآثارها المدمرة على المدنيين فإنه بالكاد أن يعرف أحد ما تنوي الإدارة الأمريكية فعله في الحرب على تنظيم الدولة (داعش) أو في الفترة اللاحقة. وهل هناك من ضمانات للعرب السنة بأن تحريرهم من وحشية تنظيم الدولة (داعش) لا يمهد لوقوعهم تحت بربرية الميليشيات الشيعية الموالية لإيران؟
المؤشرات على الأرض مع الأسف الشديد لا توحي بذلك، بل على العكس، إنها تثير مخاوف حقيقية حول المستقبل، اللجوء الحصري للقوة وتجاهل الوسائل السياسية في إدارة الصراع، تراجع دور الجيش وتنامي ظاهرة المليشيات الشيعية في مقابل إضعاف العرب السنة في العراق، جرائم الحرب والإبادة والتهجير التي ترتكبها هذه الميليشيات بحق العرب السنة في جميع المناطق التي انسحب منها تنظيم الدولة (داعش)، تواتر الإعلان والتصريحات وبجرأة غير مسبوقة عن تبعية العراق لإيران، الظهور العلني لجنرالات الحرس الثوري الإيراني بقيادة سليماني وهي تقود العمليات في المحافظات العربية السنية، ظاهرة التفريس، التحشيد الطائفي غير المسبوق ضد العرب السنة تحت غطاء محاربة الإرهاب، تعليق تنفيذ ورقة الإصلاح السياسي، تعويق عودة المهجرين إلى محافظاتهم، صرف النظر عن تشريع قانون الحرس الوطني… مؤشرات واضحة عن مآلات الحملة الراهنة حيث العرب السنة في العراق من المرشح أن يكونوا أكبر الخاسرين.
وظفت إيران قوتها الناعمة بشكل مساعدات جمة متنوعة قدمتها للغزاة عام 2003 وكسبت مقابل ذلك نفوذا غير مسبوق في العراق، واليوم توظف ترسانتها العسكرية وبشكل صارخ… ليس فقط لتقضي على ما تبقى من العراق العربي وتشهره كما قال محمود يونسي عاصمة الإمبراطورية الساسانية بل لما أهو أعظم وأخطر. لا يمكن أن يجري ذلك دون اتفاق كما أن إيران لا تقدم خدماتها ودماء جنرالاتها مجانا هكذا في سبيل الله!!…. بل كل شيء تعرضه بثمن.. فأين العرب من هذه المعادلة؟
هناك شبهات وغموض يلف ما عرف بالحملة العالمية ضد الإرهاب، لا ينبغي أن نمضي فيها مغمضي الأعين كما فعلنا في التمهيد للغزو عام 2003 ودفعنا الثمن، ولا بد أن ننتبه اليوم لما يخطط ويجري ونحذر ولا نستبعد في حساباتنا كوننا مستهدفين. الإعلام الدولي يحصي أنفاس تنظيم الدولة (داعش) ويراقب وينشر كلما يصدر عنه قول أو عمل وإيران تستثمر ذلك في التغطية على تدفق المزيد من القوات والأسلحة والتجهيزات إلى العراق عبر منفذ المنذرية، حيث تواترت الأنباء مؤخرا على وصول خمسة ألوية من الحرس الثوري وكتائب دبابات تي 62 وتي 55 إلى جانب صواريخ فجر 5 وصواريخ فتح 110 وصوارخ غراد… وما خفي ربما كان أعظم، إيران تدعي أن هذه التعزيزات لتعويض الخسائر التي تعرضت لها الميليشيات في حملتها الفاشلة على تكريت.. لكني آمل أن لا يتفاجأ إخواننا العرب غدا عندما تتجه هذه القوات كطلائع صوب الجنوب مستهدفة دول الخليج العربية !!