هذا ما يحتاجه العراق الآن..
هذا ما يحتاجه العراق الآن..
د. لؤي بحري
يحتاج العراق إلى نهضة تنموية حقيقية في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويمكن ذلك من خلال وضع خطط طويلة المدى لاعادة تأهيل قطاعات الصناعة والزراعة وتقليل الاعتماد على النفط. أيضاً، يحتاج العراق إلى اصلاح قطاع التعليم من خلال اصلاح المناهج وتطويرها بشكل يواكب التطور العلمي في كل المجالات، والابتعاد عن الطرق والوسائل القديمة في التعليم التي تعتمد اسلوب الحفظ وتبتعد عن الاستقراء والتحليل المنهجي. العراق يحتاج ايضاً إلى اصلاح القضاء من اجل تحقيق العدالة والشفافية في الحكم والإدارات وإلى بناء المستشفيات في كل مدن العراق، لان الاهتمام بصحة المواطن وتأمين الرعاية الصحية له هي أمور من صميم واجبات الدولة اتجاهه من اجل خلق مجتمع معافى يستطيع القيام بواجباته على اكمل وجه. أيضاً يحتاج العراق إلى اعادة بناء البنية التحتية كطرق المواصلات والسكك الحديدية. ومن الضوري استغلال الشريط الساحلي القصير الذي يمتلكه العراق على الخليج العربي لأكمال بناء المرفأ الذي من المفروض ان يرتبط بالبصرة وبغداد وباقي مناطق العراق بسكك حديدية وطرق مواصلات، الامر الذي يؤكد ان العراق دولة خليجية ويجب التعامل معها على هذا الاساس.
ان تشجيع المركزية السياسية واللامركزية الادارية امر مهم بالنسبة للعراق الان. ويجب ان تتم دراسة احتياجات كل محافظة من محافظات العراق، بما في ذلك اقليم كردستان الذي يجب ان يُعامل كباقي المحافظات الاخرى دون منافع او امتيازات استثنائية تثير حفيظة المحافظات الاخرى، ثم تقوم الحكومة المركزية بوضع الخطط الاستراتيجية لاعادة بناء البنى التحتية والتنمية الشاملة فيها على اساس ماتحتاجه من مشاريع في مختلف القطاعات للنهوض بواقع الحياة فيها، وعلى ان يتم اشراك مجالس المحافظات من خلال الاشراف والتنفيذ. واذا ماطبق ذلك بشكل عادل وشامل وشفاف، سينفي الحاجة الى مشروع البترودولار الذي قد يثير مستقبلا حساسية المحافظات الاخرى غير المنتجة للنفط.
ان نجاح العراق يعتمد على توحيده وعلى الغاء فكرة الاقاليم. ان تكريس فكرة تقسيم العراق سيجلب له مصائب ومشاكل اكثر وحروب داخلية لا تنتهي. العراق يتمتع بتكامل اقتصادي وتقسيمه سيؤدي الى حرمانه من هذه الخاصية المهمة. اذا ما نفذت فكرة الاقاليم فان جميعها ستحذُوا حذو كردستان التي لا تمتثل لقرارت الحكومة المركزية، وبين فترة واخرى تهدد بأعلان استقلالها.
في بداية الحكم الملكي لليبيا كانت ليبيا تتكون من ثلاث اقاليم: برقة، فزان وطرابلس وعندما استكشف النفط تم دمج الاقاليم الثلاث في دولة واحدة لتسهيل عملية استخراجه وتصديره، حيث تكون هناك جهة واحدة مسؤولة عن العمل. واذا عدنا الى الوراء كثيرا لحضارة وادي الرافدين قبل 5000 الاف سنة نرى ان الزراعة هي التي وحدت العراق، عندما نشأت الدويلات المدن قرب مصادر المياه كانت تعتمد على الزراعة. وفي عهد حمورابي سادس ملوك الدولة البابلية، اخضع هذه المدن لسيطرته حيث امتدت دولته لتشمل أراضي الدولة الأكدية والسومرية، وبذلك أصبحت الدولة البابلية هي الدولة الأقوى في بلاد الرافدين حيث قام بإنشاء العديد من شبكات الري التي ربطت المدن ووحدتها.
ان تنمية القدرات تتم من خلال اشراك كوادر الموظفين والعمال في دورات تأهيلية مختلفة، كل حسب اختصاصه من اجل تطوير كفاءاتهم المهنية واطلاعهم على احدث السبل المتبعة في مجالات العمل المختلفة في الدول المتقدمة. ويمكن ان تساعد الجامعات العراقية في اعداد البرامج التدريبية لتلك الدورات. ويجب ان لا يقتصر التدريب على الكادر الوسط للموظفين بل يشمل الكادر المتقدم من موظفي الدولة كالمحافظين واعضاء ورؤساء المجالس المحلية الذين يجهل العديد منهم طبيعة عمله، ولا ننسى اشراك رجال القانون والقضاة في دورات تخصصية.
وفي مجال الادارة يمكن تلعب كليات ومعاهد الادارة دورا كبيرا في تخريج جيل يتمكن من ادارة الدولة في المستقبل بشكل علمي ومنظم.
لقد اطلعت على المناهج المدرسية، في العلوم الانسانية للدراسة المتوسطة والثانوية فوجدتها سطحية بدون فحوى وهي عبارة عن كتيبات من صفحات معدودة وليس كتب ومناهج مدرسية تبين الاهداف العليا التي تعمل الحكومة على ايصالها الى اذهان الطلاب بحيث يكون لديهم تفسير عقلاني في علم الاجتماع والتاريخ والجغرافية والاقتصاد، بالاضافة الى فهم الحقوق والواجبات المدنية التي تقع على عاتق الشباب العراقي الذين سيساهمون في بناء العراق الجديد . أن الاهتمام الشديد بالدروس الانسانية، والعمل على تحفيز روح المبادرة والمعرفة لدى الطلاب ومحاولة ابعادهم عن اسلوب الحفظ واعتماد اسلوب الفهم والتحليل يعتبر من الامور التي يجب الاهتمام بها كما هو معمول به في عدد من الدول العربية. وفي هذه المناسبة انصح تدريس مادة العلوم السياسية في كافة المدارس الثانوية لكي يدرس الطلاب مبادئ تطور الفكر السياسي العالمي والعربي، علاوة عن دراسة معنى الاحزاب وكيفية عملها، كما يدّرس أيضاً مفهوم الدساتير والدولة واركانها وأنواع الدول وأنواع الإتحادات التي تقوم بين الدول. ان تدريس العلوم السياسية في المدارس الثانوية يعطي الفرصة للشباب والمطالبين بالاصلاح في البلدان العربية ان يتبنوا في مطالبهم مواقف فكرية وسياسية تدل على علم ومعرفة بالامور التي يمكن تحقيقها في إصلاح الانظمة السياسية في الدول التي يعيشون فيها وأفضل السبل للوصول إليها. وهناك مسألة اخرى يجب الانتباه اليها الا وهي تنمية الحس الوطني لدى الشباب وخاصة طلاب المدارس الذين يجب ان يتعلموا ان حب الوطن واجب على كل فرد يعيش فيه. هنا في امريكا وفي دول العالم الاخرى يقرأ الطلاب يوميا النشيد الوطني ليكون الوطن دائما حاضرا معهم كل صباح . ارى ان الحكومة الجديدة عليها ان تزيد من اهتمامها بقطاع التعليم لانه قطاع مهم يساهم مساهمة كبيرة في بناء العراق الجديد.
إنّ التغيير الذي يجري الان في العراق فيه خطوات جيدة نحو الاتجاه الصحيح لكن التغيير الحقيقي يتطلب وضع دستور جديد وهذا يعني اعادة النظر بكل محتوياته، وهذا ليس مستحيلا حيث هناك الكثير من رجال القانون الاكفاء والعلماء والمفكرين الذين يستطيعون وضع دستور واضح المعالم لعراق موحد، واقامة توازن حقيقي بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مع ايجاد ضوابط لهذا التوازن. وعلى سبيل المثال، فإنّ قانون الانتخابات يجب ان ينظم بشكل واضح حيث يتم الغاء نظام القوائم والدعوة الى الترشيح الفردي، وعدم السماح لافراد القوات المسلحة وقوى الامن الداخلي بالادلاء باصواتهم في الانتخابات لتبقى المؤسسة العسكرية والامنية مستقلة وبعيدة عن التجاذبات السياسية. والامر الاخر اعادة الخدمة العسكرية الالزامية من اجل تقوية الانتماء للوطن الواحد.
هناك مشكلة كبيرة اخرى يواجهها العراق وهي استشراء الفساد المالي والاداري والمحسوبية في التعينات والوظائف. ان كل البيانات التي تصدرها المنظمات الدولية المعنية بالشؤون الاقتصادية والشفافية والفساد الاداري والمالي تضع العراق في اخر سلسلة الدول التي يستشري فيها الفساد. ان سنّ القوانين لا يكفي وحده لمكافحة الفساد بل يجب ان تكون هناك ارادة قوية من قبل المسؤولين لاستئصال هذه الآفة المستشرية.
ان الحل لمشاكل العراق الدخلية يكمن، كما اسلفت، بتغيير الدستور بشكل جذري واصدار قانون جديد للانتخابات، وبقانون جديد للاحزاب، وبقانون لضمان حقوق الدولة العراقية وعدم ترك العراق لان يكون دولة فاشلة تصبح نهبا للشركات النفطية كما هو الحال في نايجيريا. الدول عبارة عن مؤسسات، والحكام بمثابة مدراء يديرون هذه المؤسسات، لذلك فإنّ مبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ينطبق على الوضع في العراق تماماً، حيث يجب اختيار الافراد بشكل دقيق وان يكون لهؤلاء خبرة وكفاءة وتفان في العمل والابتعاد عن الطائفية والحزبية الضيقة والانتماءات القبلية.
هناك مسألة اخرى وهي وجوب تحول الاقتصاد العراقي الى اقتصاد السوق وضرورة الابتعاد عن جعل الدولة المُوَظِف الاول في البلاد وهذا يترتب عليه تشجيع الاستثمار وفسح المجال لرؤوس الاموال الصغيرة عن طريق الحوافز المادية والاعفاءات الضريبية ودعم المدارس المهنية الموجودة وتطوير عملها كثانويات الصناعة والتجارة من اجل اعداد وتأهيل كادر وسطي يكون له دور فعال في المجال الصناعي والتجاري، وكذلك تنظيم دورات قصيرة الامد تسغرق 6 الى 9 اشهر من اجل تأهيل ارباب الحرف ورفد السوق بهم. وهناك دولة يمكن الاقتداء بها في هذا المجال، وهي المانيا الاتحادية التي ركزت على هذا الجانب بشكل كبير حيث فتحت عدداً كبيراً من المدارس المهنية المتخصصة التي لعبت دوراً كبيراً برفد سوق العمل بالكادر الواسط المؤهل.
إنّ أملي أن أرى عراقاً موحداً معافى، ينعم اهله بالحرية والعدل والمساواة، وهي أمور حرموا منها في ظل الحكم الدكتاتوري السابق. وانا على استعداد لتقديم المشورة والمساعدة في مجال اختصاصي متى ما طُلِب منى ذلك. يوجد اليوم الكثير من الكفاءات العراقية داخل العراق وخارجه، واذكر على سبيل المثال المؤتمر العلمي الكبير الذي دعا اليه الدكتور عبد الهادي الخليلي، الملحق الثقافي العراقي السابق في واشنطن، والذي عقد هنا بالعاصمة الأميركية وحضره اكثر من 300 عالم عراقي في الولايات المتحدة حيث ابدى الجميع استعدادهم لخدمة العراق.
طبيعي لن يتم ذلك بدون اتباع سياسة التسامح والتعايش السلمي بين الاطياف المختلفة. لقد استمر الاقتتال بين الكاثوليك والبروتستانت لاكثر من 100 عام لكنهم في النهاية توصلوا الى معاهدة لاقرار التسامح الديني والصلح بين المذهبين مما دفع الدول الاوربية التي تشكلت حديثا لتبني واقرار سياسة التسامح. لابد للحكومة العراقية بكل مؤسساستها العمل على تشجيع ثقافة التسامح واخص بالذكر قطاع التعليم بكل مراحله الذي يلعب دورا مهما في هذا الجانب. التسامح ثقافة لابد ان نتبناها لاخراج العراق من هذا الوضع الشاذ. هنا عندما يُخطئ طفلك وتحاسبه على الخطأ الذي ارتكبه، اول شئ يقوم به "الاعتذار"، وما عليك الا ان تقبل اعتذاره. هذا السلوك لا يجب أن يقتصر على الصغار فحسب بل أن يطبقه الكبار.فقد دخل نيلسون مانديلا التاريخ كاول رئيس اسود انتهج سياسة عدم الانتقام من البيض واستطاع لمّ شمل جميع ابناء المجتمع وتسخيرهم لبناء دولة جنوب افريقيا الموحدة. وهذا النهج من التسامح الإنساني هو ما نحتاجه الآن في العراق.