الغنوشي هو الذي حقن دماء التونسيين وليس السبسي

بعد الإعلان عن وفاة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي تنافس المحللون والكتّاب والإعلاميون في استذكار مآثر الراحل. 

الإنجاز الأبرز الذي تكرّر على لسان الجميع هو نجاح السبسي باستيعاب حركة النهضة التونسية ذات التوجه الإسلامي، وحماية تونس من الانزلاق لاقتتال داخلي. 

*هذه الخلاصة تدحضها مراجعة بسيطة لشريط الأحداث منذ نجاح الثورة التونسية عام 2011، التي تكشف بوضوح أن صاحب الفضل الأكبر -بعد الله عزّ وجل- في حقن دماء التونسيين وتجنيب البلاد الاقتتال الداخلي هو حركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي.*

ففي أول انتخابات للمجلس التأسيسي تلت نجاح الثورة وخلع نظام بن علي، حلّت حركة النهضة في المركز الأول بعدما فازت بـ89 مقعداً من أصل 217 بنسبة زادت على 36%، وحلّ ثانياً حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي أطلقه المنصف المرزوقي بنيله 29 مقعداً بنسبة 8% فقط.

حينها والتزاماً بالديمقراطية التي صدع الغرب رؤوسنا بها، واستجابة لنتائج الانتخابات، كان من الطبيعي أن تتصدر حركة النهضة المشهد، وأن تتولى إدارة البلاد، وأن يترشح الغنوشي أو أحد أفراد حركته لرئاسة الجمهورية، خاصة أن فلول النظام السابق كانوا ما زالوا متغلغلين في أجهزة الدولة ومؤسساتها. 

فالفرصة لحركة النهضة تاريخية بالوصول للسلطة بعد عقود من الظلم والاضطهاد والسجن والتضييق والإبعاد لقيادات الحركة. 

لكن الحركة لم تفعل، وتراجعت خطوة إلى الوراء، فلم تقدم نفسها بديلاً لتولّي السلطة، ولم ترشح أحداً من صفوفها للرئاسة، وتبنّت ترشيح المنصف المرزوقي رغم أنه حلّ ثانياً بفارق كبير عنها.

في انتخابات عام 2014، وبعدما كانت الدولة العميقة وفلول النظام السابق قد أعادوا ترتيب صفوفهم، شكلوا حزباً هجيناً أطلقوا عليه اسم "نداء تونس" ترأسه الراحل الباجي القائد السبسي، المعروف بانتمائه لمدرسة الحبيب بورقيبة المعادية للتيار الإسلامي.

وقد كان واضحاً أن ما جمع حزب نداء تونس هو العداء لحركة النهضة، فقد ضمّ الحزب خليطاً غير متجانس من ركام نظام بن علي إضافة ليساريين وعلمانيين ونقابيين، تحالفوا جميعاً لتحقيق هدف واحد، وهو مواجهة حركة النهضة، وخاضوا الانتخابات تحت شعار "من لا يصوّت لحزب نداء تونس، فقد صوَّت لحركة النهضة". حلّ حزب نداء تونس في الانتخابات بالمركز الأول محققاً 86 مقعداً بنسبة 40%، بينما حلّت حركة النهضة في المركز الثاني بنسبة 32%.

 لكن حزب نداء تونس لم يسر على خطى النهضة حين فازت في الانتخابات من زهد بالحكم، على العكس تقدم نداء تونس مدعوماً من الدولة العميقة ودول خارجية لتولّي زمام الأمور. فترشح رئيس الحزب السبسي لرئاسة الجمهورية، فأيّدته حركة النهضة رغم خلفيته العلمانية، والتزامه فكراً معروفاً بمعاداة الإسلام. 

لم يكتف السبسي بتولي الرئاسة، بل اشترط كذلك بأن يكون رئيس الوزراء من حزبه، وأمسك كذلك بجميع المفاصل الرئيسية في البلاد والوزارات السيادية، وترك لحركة النهضة بعض الحقائب الوزارية العادية. مرة جديدة تراجعت حركة النهضة إلى الوراء، ولم تعترض بل دعمت وأيّدت خطوات الرئيس الأمر الذي اعتبره البعض تخاذلاً وضعفاً.

أدركت حركة النهضة مبكراً أن الديمقراطية التي يتشدق بها البعض لا تشمل بعطفها التيارات ذات التوجه الإسلامي، بل تقتصر على اليساريين أو العلمانيين وكل طرف شرط أن لا يحمل فكراً إسلامياً. أدركت كذلك أن مخالب الأنظمة العربية لن تسمح بوصولها للسلطة في تونس، فتراجعت وتنازلت لدرجة أن البعض يعتبر أنها تخلّت عن الكثير من مبادئها بشكل مبالغ فيه ومخالف للشريعة الإسلامية. رد الحركة هو أنها تعتبر حقن دماء أبناء تونس، وحفظ الأمن والاستقرار وحماية البلاد من أي اقتتال داخلي أولوية يجب الحفاظ عليها، وهو ما نجحت به حتى الآن رغم ترصد الكثيرين.

الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي تفرّد بالسلطة رغم تفسّخ حزبه وانشقاق كثيرين عنه وخلافه مع رئيس الوزراء الذي اختاره هو، كما استفزّ حركة النهضة بمواقف وتصريحات مخالفة للشريعة، في المقابل التزمت النهضة بأولوياتها ونجحت بالتعايش والتعامل مع رئيس كانت مهمته الأساسية اعتراض وصولها للسلطة. بعد كل ذلك يأتيك من يقول بأن السبسي حقن دماء التونسيين ونجح بالتعايش مع النهضة (!!).

وسوم: العدد 837