متى استعبدتم الناس؟
متى استعبدتم الناس؟
مجاهد ديرانية
"الثورة الكبرى على الظلم والقهر والاستبداد". هذا هو العنوان الجامع الذي يصف ثورات الربيع العربي التي انفجرت بفجر جديد بعد ليل حالك طويل، ليل كان أشدَّ السواد سواداً فيه هو القهرُ الذي عانته الأمة والظلمُ الذي وقع عليها واستبدادُ القلّة القليلة من المستبدّين بأمرها، ومصادرةُ حريتها وكرامتها، فضلاً عن مصادرة مواردها وثرواتها وماضيها وحاضرها ومستقبلها. فهل يُعقل أنها ثارت ثورتَها الكبرى لتنتقل من استبداد قديم إلى استبداد جديد؟
إننا ما نزال نسمع بين وقت وآخر أو نقرأ تصريحات يقول أصحابُها إنهم يعارضون النظامَ البرلماني في الحكم، أو يرفضون الانتخابات التي يشارك فيها عامة الناس لانتخاب حكّام البلاد، والتي ينتخبون بواسطتها أيضاً مَن ينوب عنهم في مراقبة ومحاسبة أولئك الحكام، وكثيرٌ من أولئك المعارضين من جنود الثورة المخلصين.
كيف يصحّ أن يثور أحدٌ على القهر والاستبداد ثم تسوّل له نفسه الاستبدادَ بالرأي من دون جمهور الأمة؟ كيف وهو ما يزال جندياً من جنود جيش الثورة الذي يضم ملايين، فكيف لو صار له الأمر ذات يوم فصار الوليَّ على أولئك الملايين؟ لا يا أخا الإسلام، ما لهذا خرج أهلُ الثورة في الثورة، ولا تحمّل ملايينُ السوريين ما لا تكاد تحتمل مثلَه الجبالُ الراسيات من الضّيم والأسى حتى يعودوا إلى المربع الأول الذي انطلقوا منه أول مرة.
لقد دفع هذا الشعبُ الأبيّ الكريم فاتورةً هائلةً من كرائم الأنفس وعظائم التضحيات، كل ذلك من أجل أن يكون حراً، فلا يظنّنَّ أحدٌ أن الأحرار يرضَون بعد اليوم بحياة العبيد.
* * *
مخطئ من يظن أن الشعبَ أقلُّ قيمةً من أن يكون له رأي في حكم نفسه، ومخطئ من يُفتي بأن اختيار الناس مصيرَهم وأنّ حكمَهم أنفسَهم بأنفسهم من المحرمات! سواءٌ أكان اسمُ هذا النظام نظاماً شورياً أم ديمقراطياً أم برلمانياً أم غير ذلك من الأسماء فإنه هو جوهر الحكم في الإسلام. سَمّوه ما تشاؤون ولكن لا تعتدوا على حقنا في اختيار حكّامنا وحكوماتنا، وحقنا في اختيار ممثّلينا الذين يراقبون -بالنيابة عنّا- أداء أولئك الحكام وسلوكَهم في الحكم والسياسة، ويضمنون رعايتَهم لمصالح الأمة وحفظَ الحقوق وعدمَ العبث بالمال العام.
سَمّوهم -إن شئتم- أهل الحل والعقد في الأمة أو نقباءها أو نُوّابها، وسَمّوا مجلسهم -إن شئتم- مجلسَ الشورى أو مجلسَ النواب أو مجلسَ الشعب أو الجمعيةَ الوطنية أو الندوةَ أو البرلمان، المهم أن يمثل أولئك القومُ الأمةَ تمثيلاً حقيقياً وأن لا يصلوا إلى ذلك المجلس إلا برضاها واختيارها وانتخابها الحر المباشر، وأن يكونوا صوتَها الذي يوصل رأيها إلى مؤسسات الحكم، وعينَها التي تبصر بها ما يجري في تلك المؤسسات، ويدَها التي تقوّم بها ما يقع فيها من أخطاء وتجاوزات.
إن الاختيار الحر حقٌّ لكل مميّز بالغ من ذكر أو أنثى، لا يُستثنَى منه أحد، فإنّ مَن حمل الأمانة التي استثقلت حملَها السماواتُ والأرض لا يُعجزه أن يحمل ما دونها، ومن استأمنه الله على خلافته في الدنيا وأمَرَه بحسن عمارتها وسياستها لن يَضعف عن سياسة نفسه وتقرير مصيره واختيار حكّامه ونوّابه.
* * *
ولا يَقُلْ أحدٌ إن حكم الشعب نفسَه بنفسه اعتداء على الله، فإن الشعب لا يريد أن يعلوَ على حكم الله، إنه يريد أن يعلو على استبداد الفرد وسيطرته على العباد والبلاد فحسب. إنه يريد أن يسترجع حقه من السلاطين المستبدين الذين حكموه ألف عام، يريد أن تكون إرادته فوق إرادة السلطان لا فوق إرادة الله، يريد فقط أن يصحّح علاقته بحكّامه: من علاقة يملك فيها الحاكمُ البلدَ وأهلَ البلد مُلكَ اليمين إلى علاقة يوظف فيها الشعبُ رجلاً يحكمه بعقد واضح وسلطات محدودة، ويبقى كلاهما -الشعب والحكام- تحت إرادة الله رب العالمين.
هذا هو جوهر التغيير الذي نريده والذي يسمّيه بعض الإسلاميين "ديمقراطية كافرة"، فما يزالون يحاربون كل محاولة تبذلها الأمة لكسر أغلال الاستبداد والحكم الفردي الجبري، ويحاربون نظام التداول السلمي والاختيار الحر الذي تختار فيه الأمة حكامها وتنتخب ممثّليها في البرلمان، وهو مؤسسة الحل والعقد التي تراقب الحكام وتضمن قيامهم بوظيفتهم التي وظّفتهم الأمةُ من أجلها، وتضمن أن لا يتصرف أحدٌ منهم بالبلاد تصرّفَ مالك المزرعة بمزرعته الخاصة أو يتصرف بالبعاد تصرف المُلاّك بالمماليك.
أتكون حرية الناس ويكون حقهم في سياسة أنفسهم بأنفسهم كفراً، ويكون استبداد الفرد وتحكّم حفنة قليلة بمصير الملايين هو حكم الإسلام؟! مخطئ من ظن أن الأول كفر، وأشد خطأ منه مَن ظن أن الثاني من الإسلام.