بيان الفصائل الثمانية والمصالحة
يمكن تلخيص بيان الفصائل الثمانية، مع بعض الإجحاف في التلخيص كما يلي: توقيت البيان جاء استجابة للجهود المصرية المبذولة لتحقيق المصالحة، والهدف: المصالحة وإنهاء الانقسام، وذلك باعتماد الاتفاقيات الموقعة من عام 2005 إلى 2012 مرجعاً. ويُصار إلى إحياء لجنة الأمناء العامين لتطوير "م.ت.ف" خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر في القاهرة، وبضرورة حضور الرئيس محمود عباس. وذلك لتقوم اللجنة بصوْغ رؤية وبرنامج واستراتيجية وطنية نضالية مشتركة، ثم تقوم بتشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية تجري انتخابات شاملة للمجلس الوطني وللمجلس التشريعي وللرئاسة، خلال العامين 2019-2020.
من يتأمل كل ذلك بنداً بنداً يلحظ أنه عودٌ إلى مناقشة أسباب الانقسام، وإعادة تحريك أو إحياء الاتفاقات التي سبق أن وضعت على الرف، وكانت مدعاة للاختلاف إذا أنزلت للتطبيق، وقد انتهت عملياً إلى مزيد من الانقسام والتوتر في الإعلام والتصريحات. فكيف يؤمل اليوم العودة إلى كل ذلك، في حين لم يغيّر محمود عباس استراتيجيته وقناعاته بالنسبة إلى المضي في التسوية، أو مناهضة المقاومة المسلحة والانتفاضة؟ وكذلك لم تغيّر حماس في استراتيجيتها، بل زادت قوة عسكرية ونفوذاً بتحالفات جديدة، وبانطلاق مسيرات العودة الكبرى.
هذا يعني أن البيان المذكور سوف يُجرّب المجرَّب؛ لأنه لم يقدم جديداً في التعامل مع المصالحة والانقسام. ولهذا لن يكون مصيره النجاح، فهل كان ثمة بديل؟ نعم، كيف؟
تطوّران هامان حصلا خلال السنتين الماضيتين: الأول قطع العلاقات بين سلطة رام الله (فتح) وبين أمريكا، بسبب الاعتراض على السياسات الأمريكية المتعلقة بالقدس، ووكالة الغوث، وما سمي بـ"صفقة القرن". هذا التطور فتح آفاقاً، وأوجد ظروفاً ومناخات للانتقال بالوضع الفلسطيني المنقسم إلى الالتقاء الجماعي، وبمشاركة حماس وفتح، ضد السياسات الأمريكية. وقد ترجم عملياً بعقد مؤتمر جامع في بيروت ضد "صفقة القرن". وعقد في أثنائه لقاء مشترك جامع.
وكان من المفترض أن تُبنى عليه خطوات لاحقة لتثبيت هذا اللقاء، والانتقال إلى المواجهة ضد السياسات الأمريكية والصهيونية على الأرض الفلسطينية.
التطور الثاني كان المبادرة شبه الجماعية لإطلاق مسيرة العودة الكبرى في قطاع غزة وديمومتها أسبوعياً على مدى سنة ونصف وأكثر، إلى جانب ما تخللتها من مواجهات، وتشكيل الغرفة المشتركة التي تقود المقاومة المسلحة. هذا التطور فتح بدوره آفاقاً موازية للآفاق التي فتحها التطور الأول آنف الذكر. فها هنا تطوران تشكلا بصورة موازية ومتكاملة، ويفترض بأن يُبنى عليهما للانتقال إلى المواجهة العملية الشاملة في الضفة الغربية والقدس، أو التقاء الجميع لمواجهة "صفقة القرن". وليس العودة إلى حوارات المصالحة وإنهاء الانقسام.
يعني أدى هذان التطوران إلى توليد ظروف ومناخات وآفاق جديدة لانتقال الساحة الفلسطينية، في ظل الانقسام، إلى السعي لتشكيل قيادة موحدة تقود وحدة وطنية بين جميع الفصائل، بما فيها فتح وحماس، وذلك بتحديد نقاط اتفاق مشتركة بين الجميع لمواجهة تحديات راهنة مثل "صفقة القرن"، والسياسات الأمريكية المتعلقة بالقدس ووكالة الغوث ودعم ترامب لسياسات نتنياهو، والاتفاق لمواجهة الانتهاكات الصهيونية لاقتسام الصلاة في المسجد الأقصى، أو السعي لضم الأغوار والمستوطنات، أو قانون الدولة القومية اليهودية. والأهم مواجهة الاحتلال والاستيطان في القدس والضفة، وكسر الحصار على قطاع غزة، والتصدي المشترك للاعتداءات العسكرية الصهيونية على قطاع غزة.
هذه النقاط المشتركة يمكن الاتفاق حولها وتحقيق وحدة وطنية لمواجهتها، وإن لم يكن كلها فبعضها، وذلك من دون الحاجة إلى مصالحة تحل الخلاف في الاستراتيجية والأهداف، وتنهي الانقسام بين سلطتين في كل من الضفة وقطاع غزة، لأن دون ذلك خرط القتاد وإشعال أسباب الانقسام مرة أخرى، ليس بين حماس وفتح فحسب، وإنما أيضاً، فيما بين الموقعين على بيان الفصائل الثمانية أنفسهم.
تتبنى فتح الاستراتيجية التي يعبر عنها الرئيس محمود عباس، وثمة خلاف عميق حولها، ليس من قِبَل حماس فحسب، وإنما أيضاً من قِبَل غالبية الفصائل الفلسطينية الموقعة على بيان الثمانية. فالوصول إلى استراتيجية وبرنامج واحد غير ممكن في الظروف الراهنة. والأهم، ثمة وضعان مختلفان جذرياً بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة، وذهبت كل مساعي المصالحة السابقة إلى انتقال سلطة رام الله لتشمل قطاع غزة، الأمر الذي اصطدم بما في قطاع غزة من حالة مقاومة عسكرية وأنفاق ونظام أمني لحمايتهما، كما شد إلى إشكالية التنسيق الأمني في الضفة الغربية. ولهذا، فإن كل من يطالب بالمصالحة ضمن الاتفاقات من 2005 إلى 2012، يجب أن يقول كيف تحل إشكاليتا الاستراتيجية والوضعين في الضفة وقطاع غزة.
ولهذا، يجب جعل الانقسام وراءنا من دون أن ننكأ جراحه؛ لأن معالجته العملية والثورية لا تكون إلاّ بالتسكين والتجاوز لإعطاء الأولوية لمواجهة "صفقة القرن"، أو في الأصح لمواجهة السياسات والممارسات الصهيونية والأمريكية التي تشكل التحديات الراهنة، والتي يمكن أن يتفق عليها الجميع، خصوصاً بعد القطيعة بين محمود عباس وإدارة دونالد ترامب، وشبه القطيعة مع حكومة نتنياهو.
وبعد، واستدراكاً لما تقدم، ليس واضحاً للكثيرين داخل الساحة الفلسطينية وخارجها ما هي الأسباب التي أدت إلى الانقسام، وجعلت المصالحة مستعصية، ويصل الأمر ببعضهم إلى أن ينسى أنه يتعامل مع قيادة حركتين ناضجتين وكبيرتين، وتعرف كل منهما ماذا تفعل، وماذا تريد، فيظن أنهما لا تدركان أهمية المصالحة والوحدة الوطنية، وتذهبان إلى الانقسام عبثاً، أو جهلاً، أو بسبب أنانية حب السلطة. لذا توجب السؤال: ما هي أسباب الانقسام؟ وما الأسباب التي تحول دون المصالحة؟
هل هي أسباب سياسية جادة، ولا يمكن التوفيق بين سياسة كل من الحركتين؟ والحركتان جادتان في ما تتبنيانه من سياسات وتمارسانه من استراتيجية وتكتيك على الأرض، وفي العلاقة بالعدو الصهيوني. بل كل منهما تدفع ثمناً غالياً بسبب ما تتتبناه من سياسة.
فعلى سبيل المثال، حركة فتح تدفع ثمناً غالياً من سمعتها بسبب سياسة التسوية وأوسلو والتنسيق الأمني، وحماس تدفع ثمناً غالياً من خلال المقاومة المسلحة وما تتطلبه من أثمان، لا سيما حين تصل إلى التسلح بالصواريخ، وحفر مئات الكيلومترات من الأنفاق. فإذا كان الأمر بكل هذه الجدية، فدعوة الفصائل ستؤدي إلى إعادة الخلاف وليس إلى إنهائه، ولا مسوّغ إلى إعادة التجربة إلاّ إذا كان لدى تلك الفصائل ما يشير إلى أن إحداهما (فتح أو حماس) تخلت عن سياستا ومستعدة للتقارب مع السياسة الأخرى.
السؤال الثاني حول قيام وضعين مختلفين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة؛ يعبران عن الانقسام أشد تعبير. فالسلطة التي تقودها فتح في الضفة، والسلطة التي تقودها حماس في القطاع، تمارسان تكريس كل من الوضعين. وقد أثبتت التجربة السابقة أن الرئيس محمود عباس لن يقبل بمصالحة إلاّ ببسط سلطة رام الله على قطاع غزة ("فوق الأرض وتحت الأرض"). فكيف تقوم مصالحة؟
وسوم: العدد 844