قمة كوالالمبور والبحث عن تحالف إسلامي فاعل
مهما قيل عن القمة الإسلامية التي عقدت مؤخرا في العاصمة الماليزية، كوالالمبور، فإنها مبادرة نادرة جاءت في وقت تحتاج أمة المسلمين فيه لكسر الجمود السياسي الذي تعيشه. فمنذ سنوات طرحت فكرة مشروع حلف إسلامي فاعل يمارس دورا على الساحة الدولية ويوفر للمسلمين قدرا من الهيبة والمكانة، ويعمق مفهوم الاستقلال والقوة الذاتية.
صحيح أن هناك منابر تتحدث باسم الوحدة، وفي مقدمتها منظمة التعاون الإسلامي، وهو الاسم الجديد لما كان يسمى «منظمة المؤتمر الإسلامي»، ولكنها لم تكن فاعلة ابدا، بل تحولت تدريجيا الى منابر واسماء لخدمة سياسات بعض الدول، وانفصلت تدريجيا عن هموم الشعوب العربية والإسلامية وقضاياها المحورية. منظمة التعاون الإسلامي لم تعد فاعلة، ولا يكاد يشعر احد بوجودها. وقممها النادرة الانعقاد اصبحت كالجامعة العربية من حيث الجمود وعدم التأثير. فأين هي هذه المنظمة من الكارثة التي عصفت بمسلمي بورما (الروهينغا)؟ أين قمتها الطارئة لمناقشة هذه الأزمة؟ أين هذه المنظمة من قضية كشمير التي اعلنت الهند قبل شهرين ضمها تماما لها بعد ان كانت تعيش ضمن حكم ذاتي واضح؟ أين هذه المنظمة من الجرائم التي ترتكب يوميا ضد فلسطين واهلها؟ فلا يكاد يمر اسبوع بدون سقوط شهيد او اكثر على ايدي قوات الاحتلال؟ أين منظمة التعاون الإسلامي من تهويد القدس وتهديد المسجد الاقصى؟ في ظل هذا الغياب اصبح السكوت على الوضع شراكة في تداعيه، الأمر الذي يعتبر خذلانا لأكثر من مليار ونصف من المسلمين. هذه الأمة المترامية الاطراف، اصبحت هامشية لا يعبأ الآخرون بوجودها، بل اصبح الإسلام الذي يفترض ان يكون أساس وجود المنظمة، مستهدفا بوضوح وإصرار. فظاهرة الإسلاموفوبيا (التخويف من الدين الإسلامي وتشويهه) تمارس على نطاق يومي، حتى من زعماء الدول التي تربطها علاقات ودية مع زعماء منظمة التعاون الإسلامي. والتمييز العلني ضدهم اصبح سياسة ثابتة تمارسها دول تعتبر «صديقة» للدول الاعضاء بالمنظمة. وما قرار الهند الاخير بمنع منح الجنسية الهندية للمسلمين الهاربين من الدول المجاورة الا نتيجة استبعادها حدوث ردة فعل ذات أثر من قبل منظمة التعاون الإسلامي.
هذه الحقائق لا يمكن ان تكون خافية على زعماء دول المسلمين، خصوص الكبرى منها. فأين هو الدور التركي؟ او الإيراني؟ او الباكستاني؟ او الاندونيسي؟ خصوصا في اطار عمل المنظمة؟ كيف تم تحويلها الى دائرة خاصة لبعض الدول لمنافسة مناوئيها من خلالها؟ بالاضافة لذلك لا وجود لدعوة من داخل المنظمة لإصلاح اوضاعها بالشكل الذي يعيد لها شيئا من النفوذ والتأثير. فاذا لم يحدث ذلك فما جدوى وجود منظمة التعاون الإسلامي؟ خصوصا اذا اخذ بعين الاعتبار استمرار المماحكات بين الدول الإسلامية الكبرى نفسها؟ لقد اصبح وجودها رمزا لنفوذ المال النفطي الواسع، وان لم تكن لدى هذا المال واصحابه اجندة اصلاحية على مستوى الأمة كلها. وما كان يراد لها ان تكون كذلك. لا بد ان يكون هناك من يمثل المسلمين الذين يبلغ عددهم ربع سكان العالم. صحيح ان بعض التحالفات الاقليمية ربما تلاشت او انكمش دورها ونفوذها، ولكن ما تزال هناك تجمعات ومحاور سياسية تسعى لحماية دولها وشعوبها من جشع الغير.
في السابق كانت هناك محاولات توحيدية ليس على مستوى المسلمين فحسب، بل لحماية مصالح شعوب العالم الثالث وتجنيبها الصراع في حقبة الحرب الباردة. فكان هناك مؤتمر باندونغ في 1955 الذي نجم عنه تأسيس منظمة عدم الانحياز، وكان هناك التعاون الآفرو- أسيوي. كانت الشعوب آنذاك ومن ضمنها الشعوب الإسلامية، تتطلع للتحرر من الاستعمار من جهة وضمان عدم الانحياز لاي من المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي من جهة اخرى. فالشعور بالحاجة للعمل المشترك بين الدول المتقاربة في التوجهات الفكرية او السياسية او حتى العرقية، كان عميقا، خصوصا مع وعي تلك الشعوب بضرورة التصدي للتحديات الخارجية التي تمثلها القوى الاستعمارية آنذاك. صحيح ان الايديولوجيا لعبت في تأطير التحالفات، ولكن الشعوب بقيت وفية لأهدافها التحررية بشكل عام.
واذا كانت فكرة الجامعة الإسلامية التي طرحها المفكرون منذ اكثر من قرن قد نالت استحسان الكثيرين، فان عدم تحققها كان خيبة امل كبرى. يومها كانت الأمة تعيش واحدة من لحظات هبوطها الحضاري ونفوذها السياسي، بينما كانت القوى الاستعمارية تشق طريقها الى المنطقة، طامعة في بسط النفوذ السياسي والاستفادة الاقتصادية من النفط الذي كان في طور الاكتشاف. وما ان ألغيت رسميا «الخلافة الإسلامية» في 1923 حتى فرضت على الأمة ايديولوجيات تعمق سياسات التقسيم والتجزئة. فطرحت القوميات (التركية والفارسية والعربية) بديلا للإسلام الجامع، وانتهى مشروع الخلافة الجامعة لشمل الأمة، واستبدلت بنظام الدولة القطرية الذي منع قيام وحدة حقيقية بين شتات العرب والمسلمين. ولم يؤد مشروع الوحدة العربية الى التوحيد الحقيقي، بل انقسم العرب على انفسهم خصوصا بعد الضربات العسكرية المتلاحقة منذ الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين قبل اكثر من 70 عاما. يومها كان مشروع الجامعة العربية قائما في ظل الوجود الاستعماري خصوصا البريطاني في المنطقة. وفي اجواء الحرب الباردة بدا للكثيرين ان الجامعة العربية منحازة نحو الاتحاد السوفياتي، لأن قادتها تضامنوا مع قوى التحرر الوطني في العالم الثالث. فكان جمال عبد الناصر رمزا لذلك التوجه الشعبوي الذي فرض نفسه في الشوارع والساحات في كافة اقطار العالم العربي. يومها كانت أمريكا ومن هو محسوب عليها تسمى «القوى الرجعية»، ولم يكن مستساغا ان يتحالف احد معها. في تلك الاجواء تأسست منظمة المؤتمر الإسلامي في أيلول/سبتمبر 1969 لتكون، حسب دباجتها «الصوت الجماعي للعالم الإسلامي» وأنها تهدف لـ «حماية المصالح الحيوية للمسلمين». كان الملك فيصل بن عبد العزيز واضحا في ما يريد: صوتا إسلاميا محافظا في مقابل عروبة ثورية. ومع تغير ظروف العالم العربي في السنوات الخمسين الماضية، اصبح الوضع الراهن يتميز بالجمود على الموروث السياسي.
الواضح ان هناك عجزا لدى النخب الحاكمة في العالمين العربي والإسلامي عن كسر الجمود المستشري في العالم الإسلامي. ومن اسباب ذلك ما يلي: اولا: تغليب المصلحة الذاتية على المصالح الجماعية، ثانيا: رغبة بعض الجهات المتنفذة ماليا في الهيمنة على الشأن العربي والإسلامي العام، ثالثا: عجز هذه الانظمة عن تطوير ادائها بما يتناسب مع مستلزمات التطور ومراعاة تغير التوجهات، رابعا: بروز حالة التنافس على حساب التعاون والتضامن والتكامل. وقد جاءت قمة كوالا لامبور لتؤكد ما يلي: الاول: شعور بعض حكام الدول الإسلامية الكبرى بضرورة القيام بمسؤولية التغيير والتطوير لكسر الجمود، الثاني: تعمق الشعور بعدم فاعلية ما هو قائم من تحالفات او تجمعات اقليمية خصوصا منظمة التعاون الإسلامي التي اصبحت تابعة لبعض الحكومات، ويستحيل على أي طرف آخر التأثير على مسارها. ثالثا: الاحساس بالحرج من تداعي موقع الأمة ومواقفها ازاء التطورات الاقليمية، وسعي البعض لجرها لاتباع سياساتها خصوصا في مجال التطبيع مع الاحتلال الاسرائيلي، والصمت على ممارساته كتهويد القدس، التخطيط لهدم المسجد الاقصى، التوسع في بناء المستوطنات في الاراضي التي يفترض انها تابعة للسلطة الفلسطينية، تصاعد جرائم قتل الفلسطينيين بدم بارد بدون توقف.
وسوم: العدد 856