الضعف في اللغة العربية .. مظاهره وأسبابه وعلاجه
تشيع الأخطاء في استخدامنا للغتنا العربية إملاء ونحوا وصرفا وأساليب ، وتطرح الآراء بيانا لأسباب هذه الأخطاء ، وتعرض الاقتراحات حلولا لها . ويزيد القلق في أمر هذه الأخطاء أننا لا نكاد نرى شبيها لها في اللغات الأخرى ، وفي هذا ما يعني أن العلة فينا نحن أهل العربية ومستخدميها حديثا وكتابة ، ولا صلة لها باللغة من حيث الخصائص ، وهو ما يعبر عنه لدى بعضنا بالقول إنها صعبة التعلم عسيرة الإتقان .
ولنقارن بين أخطائنا في لغتنا في الوقت الحالي وبين أخطاء مستخدميها في عقود الأربعينات والخمسينات والستينات متخذين كتب تلك العقود وصحفها مجال هذه المقارنة . أخطاء تلك العقود أقل إلى درجة الندرة .
إذن العلة في المستخدم وليس في اللغة . كل لغة لها مشكلاتها الكتابية والصوتية ، والمعول في تعلمها وإتقانها على مستخدميها خاصة أهلها ؛ لأنهم الأقرب لها والألزم بها تعلما وإتقانا بوصفها صانعة هويتهم القومية ووعاء ثقافتهم وفكرهم وأدبهم . واللغة علم ، وما من علم سهل ، ولكنها علم يمكن الأخذ منه عند الأكثرية بالنصيب الذي يؤهلهم لاستخدامها حديثا وكتابة بكيفية مبرأة من الأخطاء المفحشة التي نلقاها شائعة هذه الأيام في وسائل الإعلام والمؤلفات ولا يكاد ينجو من وبائها إلا قلة . وفي لغتنا العربية يصنع بعض إخواننا من المسلمين حجة مسكتة لنا لإتقانهم الحديث بالعربية الفصيحة ، ويعيدوننا بهذه الميزة إلى إسهامات المسلمين غير العرب في وضع علوم العربية من نحو وبلاغة وما كان لهم من إنتاج غزير في شعرها ونثرها . وإتقان العربية في وقتنا ليس حكرا على بعض المسلمين . بعض الروس _ وهذه ظاهرة لديهم _ يتقنون الحديث بالعربية إتقانا متميزا ، ومنهم فيتالي نعومكن . وإنه لمغرٍ أن ننظر في الاختلاف بين من يتعلم العربية من الروس ومن يتعلمها من الغربيين . عندما نسمع هؤلاء الغربيين يتحدثون العربية ندرك فورا أنهم أبعد ما يكونون عن ضبط أصواتها وأساليبها . وفي تعليل موجز لهذا الفرق أحسبه راجعا إلى أن الروس يتعلمون العربية بحب لها ونية مخلصة في التعرف على أهلها وثقافتهم بينما يتعلمها أكثر الغربيين بسوء نية وظيفي للإضرار بالعرب والمسلمين في العقيدة والثقافة ، وللتجسس . ويسري هذا السوء على الإسرائيليين . والمضحك في هذا المنحى استذكار ما فعله الجيش الإسرائيلي في الانتفاضة الأولى حين وزع على أجناده معاجم صغيرة حشدت فيها طائفة من الألفاظ العربية التي تستخدم في السباب والإهانات ليواجهوا بها الأطفال والشبان . حب اللغة لذاتها ثقافة وأهلا شرط نفسي فعال لإتقانها أو على الأقل التفقه فيها بصورة مناسبة نافعة . وأهل اللغة أولى وألزم من سواهم بحب لغتهم . هو حب لذاتهم وحفظ لكينونتهم الخاصة . قرأت مرة مقالا في جريدة " القدس العربي " تحدث فيه كاتبه أحمد العمراوي عن ظاهرة كره بعض الطلاب في المغرب للغة العربية لظروف تحيط بتعلمها هناك . وهذه الظروف قائمة في بعض الدول لعربية على تباين في الكثرة والشدة . ويمكن تركيز علل الضعف في العربية حاليا في :
أولا : جهل قيمتها من أكثر دارسيها ومدرسيها . ينظرون إليها باعتبارها مبحثا في مقرر دراسي على المدرس أن يدرسه بحكم المهنة ، وعلى الطالب أن يفهم منه قدر مستطاعه للنجاح فيه . واللغة طبعا أبعد من هذين الهدفين . إنها شخصية الأمة ومستودع روحها وفكرها وثقافتها وأقوى وسائل التواصل بين أبنائها ، وفوق كل هذا تختص العربية بصفتها الفريدة بين اللغات لكونها لغة كتاب الله الذي جلى طاقاتها التعبيرية الواسعة حين جعلها _ سبحانه _ وسيلة بيانه المعجز . وعلى هذا يكون تعلمها طريقا لفهم كتاب الله الذي لا تستقيم العقيدة الإسلامية دون فهمه ، وهذا حافز ما يتكبده المسلمون غير العرب من جهد ووقت ومال لتعلم العربية . ثانيا : نواقص كثيرة في تعليمها من حيث المقرر والطريقة وعدد الحصص ومستوى أهلية بعض مدرسيها في التعليم العام ومزاحمة اللغات الأجنبية لها . ثالثا : التهاون نحو الخطأ فيها في كل المجالات : الإعلام واللافتات والمكاتبات الرسمية حتى الاختبارات المدرسية . دخلت مرة مدرسة بنات، وسألت مديرتها : ألم تلحظي شيئا في لوحة بيانات المدرسة ؟ فقالت مستغربة : ماذا فيها ؟ فلفتها إلى كتابة الفعل ( أنشئت ) المبني للمجهول " أنشأت " مبنيا للمعلوم ، والمدرسة منشأة منذ سنوات ، ولم ينتبه أحد للخطأ. في رئاسته الأولى هاتف الرئيس الروسي بوتين مديرة مدرسة إعدادية غاضبا موبخا بعد تلقيه رسالة من إحدى طالبات المدرسة وجد فيها بعض الأخطاء . وإذا كانت أخطاء المطبوعات الورقية كثيرة فأخطاء المواقع الإلكترونية أكثر وأشنع ؛ لخلوها من المدققين اللغويين ولنشرها إنتاجا لا يرقى في لغته على الأقل لأهلية النشر . ويصدم في مقالات بعض الكتاب وشعر أو قصص بعض الأدباء في هذه المواقع ما فيها من أخطاء نحوية وإملائية مع ما في المقالات من قيمة مضمونية وما في الأشعار والقصص من محاسن فنية وأسلوبية . أما أكثر القراء الذين يعلقون على الأخبار خاصة فكتابتهم وباء من الأخطاء لا عهد للعربية به ، واستمرار هذا الوباء سيلحق بالعربية أعمق الأذى . أما الكتاب والأدباء ففي طوقهم أن يطهروا كتاباتهم من هذه الأخطاء المعيبة بشيء من الاهتمام والجهد . الكتابة في مختلف ألوانها الفكرية والفنية عمل لغوي في الأساس ، وما من كاتب عظيم أو أديب عظيم تنقصه العظمة والصحة في لغته . رابعا : الابتعاد عن المصادر التي تزودنا باللغة ، وهي الكتب والصحف الورقية . قراءة هذه المصادر تعلمنا صحة القراءة والكتابة والأسلوب . وسائل الإعلام والتسلية وقضاء وقت الفراغ الحديثة تعتمد على الصورة والسماع أكثر من اعتمادها على الكتابة. حتى الطلاب قلت كتابتهم ، وعندما يكلفون الآن ببحث في موضوع يبادرون إلى جلبه فورا من النت ، وهذه الظاهرة تسهم في رداءة خطوطهم . خامسا : تراجع الاهتمام بحفظ النصوص الجيدة من الشعر العربي تراجعا واسعا ، وامتد هذا التراجع إلى النصوص المدرسية المقررة ؛ فأكثر الطلاب يتركون الجزء الخاص بالحفظ في اختبار النصوص دون إجابة . يروي دبلوماسي مصري أنه اختبر في اللغة العربية أربعين شابا تقدموا للعمل في السلك الدبلوماسي ، وفي الأسئلة الشفوية كان يطلب من كل شاب ذكر بيت من الشعر العربي فلم يوفق أي واحد منهم لذكر أي بيت مع أنه حاول أن ييسر عليهم الإجابة بأن يتذكروا بيتا مما غنته أم كلثوم من قصائد الشعر العربي . حفظ الشعر يؤسس الحس الموسيقي لدى الإنسان تأسيسا راسخا صافيا ، وإذا استقام حسه الموسيقى استقام حسه اللغوي واقتدر على بناء الجملة السوية التركيب ، وفوق هذا ؛ الشعر مصدر أساسي للغة ألفاظا وأساليب ، وميسر لفهم النحو والصرف . كيف نشفي لغتنا من هذه العلل ؟ شفاء أي علة منها فيفعل نقيضها ، ويمكن النظر في : أولا : العودة إلى ما كان قائما في البلاد العربية في ما يتصل بمهارة الكتابة ( الإملاء ) أي أن تكون المرحلة الابتدائية مرحلة الحسم لاكتساب هذه المهارة ، والتخلي عما اضطرت إليه كثير من هذه الدول _ وقد تكون كلها _ من ترحيل تعلم الإملاء إلى المرحلة الإعدادية ، والترابط وثيق بين إجادة الإملاء وإجادة القراءة . وسبل حسم اكتساب مهارة الإملاء في المرحلة الابتدائية مجال واسع للنظر والاجتهاد . يمكن مثلا التركيز عليها في الثلاثة الصفوف الأولى من التعليم الابتدائي وتقليل منافسة المواد الأخرى لها ، ويكون ذلك بالإكثار من الكتابة ( النسخ ) داخل تلك الصفوف في جو نفسي لا يشعر معه التلميذ أنه يؤدي عملا إجباريا ثقيلا بل يقوم بنشاط أقرب إلى الهواية الذاتية الممتعة ، ويقبل من كل تلميذ من الكلمات والسطور المكتوبة ماهو في دائرة مقدرته الذاتية التي من المؤكد أنها ستتنامى اتساعا في ظل الجو النفسي المريح له . ومواكبة لذلك يحفظ التلميذ ما تيسر من القرآن وقصر من الحديث الشريف وسهل وعذب من الأناشيد ، ويحفز في الصف الثالث على قراءة صغار القصص . ويفيد في ثلاثة الصفوف هذه أن يتحرر من ثقل اللغة الأجنبية . ولأن ملكة اللغة واحدة لدى الإنسان سيسهل على من يتعلم العربية جيدا من هؤلاء التلاميذ أن يتعلم اللغة الأجنبية في الصف الرابع . ويتوالى الاهتمام بالكتابة في بقية المرحلة الابتدائية ، ويعفى التلميذ فيها من إرهاقه بتعليل كتابة الكلمات على الصورة التي تكتب بها . الإملاء سنة متبوعة ، وكثير من الناس لا يعرفون سبب كتابة ما يكتبونه صحيحا على صورته المعروفة . يكفي مثلا أن يكتب التلميذ كلمة ( فؤاد ) بهذه الصورة الصحيحة دون إعناته ببيان علة كتابتها على الواو الأمر الذي يفتح باب الاضطرار للتفرقة بين قوة الحركات . ثانيا : تمييز درجة النجاح في اللغة العربية من درجات بقية المباحث ، ويناسب أن تكون 60 % من الدرجة الكلية تنبيها لأهميتها ودفعا للاجتهاد فيها . ثالثا : تكريم المتفوقين فيها نهاية كل عام دراسي ، ومن المفيد انسحاب شكل من التكريم لأجهزة الإعلام التي يبين خلال عام أنها أحفظ لصحة اللغة من سواها . رابعا : الابتعاد في كتب النحو والصرف المدرسية عن التوسع الذي تقل فائدته المباشرة أو يكون في الموضوع ما هو أولى منه بالعناية . في كتاب "العلوم اللغوية " الفلسطيني السابق للجديد الحالي للصف التاسع يرد عشرة نواب للمفعول المطلق ، ومؤدى هذا أنه لم يترك للمراحل الدراسية التالية سوى أربعة نواب ؛ فهل هذه " قسمة " عادلة حتى بالمفهوم "الخلقي" قبل التربوي ؟ وما أكثر ما يمكن أن يُقترَح ويرى في مجمل قضية الضعف اللغوي ! الثابت أن ضعفنا واسع في لغتنا ، ويلزمنا الصدق والصرامة في التخلص منه . لنمنح لغتنا العظيمة الحب والاهتمام اللذين يليقان بها ! لنمنحها ما يمنحه الآخرون لغاتهم ! ولا خروج عن مسار المقال حين نمجد سوريا العظيمة التي تدرس كل العلوم بالعربية .
وسوم: العدد 856