عندما يهزم الربيع الأساطير
لا يختلف اثنان في أن الثورات العربية التي لا تزال أطوارها الدامية تتفاعل في المشهد الإقليمي قد أحدثت في الواقع وفي الوعي زلزالا عنيفا فلم يعد ما قبلها شبيها بما بعدها. تغيّر المشهد بشكل جذري وتغيرت قيمة الفواعل فيه بشكل أكثر عمقا إلى درجة أصبح من العسير معها تتبع نسق التغيرات المتسارعة كل يوم مشرقا ومغربا.
صحيح أن الدمار والخراب والحرب الدائرة على أكثر من جبهة واحدة قد احتلت مكان الأمل الذي عقدته الجماهير حين خرجت مطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية. صحيح أيضا أن القوى الانقلابية قد نجحت إلى حدّ كبير في استعادة المجال الذي كان لها قبل الربيع بل وأحكمت قبضتها على المجتمع والدولة كما هو الحال في مصر مثلا. صحيح كذلك أن النخب العربية عجزت في هذا المنعرج الحاسم عن تجنيب البلاد السقوط في أتون الفوضى والاحتراب الداخلي مقدّمةً مصلحتها الذاتية على المصلحة العليا للأوطان.
كل هذا وغيره صحيح لأن الثمن الذي دفعته شعوب المنطقة من دماء أبنائها كان ثمنا باهظا جدا. لكن رغم كل الدماء ورغم كل الأشلاء فإن فضل الثورات يتجلى في أنه أزاح القناع بشكل غير قابل للنقض على شبكة ضخمة من الأساطير والأكاذيب التي تأسس عليها الوجود العربي نفسه وألغت بشكل نهائي كل السرديات والقناعات التي فرضت على الوعي الجمعي العربي فرضا خلال ما يقارب القرن من الزمان.
وهم الدولة الوطنية
أول الأساطير التي أرسى الاستبداد دعائمها كانت فكرة الدولة الوطنية المستقلة صاحبة السيادة وهي فكرة لم تكن منفصلة على مشروع التقسيم الذي أرساه برنامج سايكس بيكو للمنطقة برمتها. كيف يمكن الحديث عن دولة وطنية في ليبيا أو تونس أو سوريا أو اليمن أو مصر بعد كل الجرائم التي ارتكبت في حق الشعوب ؟ كيف يمكن الحديث عن جيوش الدولة الوطنية التي لم تكن قادرة على حماية شعبها ؟ بل كيف يمكن الحديث عنها وهي التي ارتكبت ولا تزل ترتكب أبشع المجازر في حق شعوبها ؟
لقد ثارت الشعوب على هذه الدولة الوطنية وخرجت مطالبة بدولة حقيقية بدل وهم الدولة أو الدولة المزيفة. لقد صبرت الشعوب العربية عقودا من الزمن لترى حجم الخراب الذي خلفه وهم الدولة الوطنية وكيف حوّل الأوطان إلى مزارع عائلية ينخرها الفساد والنهب المنظم والقمع الدامي.
لم تحقق الدولة الوطنية إنجازا يذكر مقارنة بدول أخرى أقل مواد وأقلّ طاقات بشرية. لم تحقق أغلب الدول العربية رغم إمكانياتها البشرية والجغرافية ومواردها الطبيعية الضخمة ما يمكّنها من الخروج من مرحلة المفعول به تاريخيا إلى طور الفاعل المستقل بقراره السيادي.
هذه التراكمات التي صاحبها نظام قمعي متوحش ألغى حرية التعبير وحرية المشاركة السياسية هي التي دفعت بالجماهير إلى الشوارع وهي التي فجرت حالة الغضب الشعبي إلى أن بلغ المرحلة التي وصلنا إليها اليوم بعد أن ألغى النظام الرسمي العربي كل إمكانيات الحوار السياسي وصارت كل الأفاق مسدود أمام كل نوع من أنواع التغيير السلمي الداخلية.
وهم العمل المشترك
لم يقتصر عجز الدولة العربية على مجالها الداخلي بل تعداه إلى فشل كل آليات العمل العربي المشترك التي لم تنجح منذ إنشائها في كسب معركة واحدة من معارك الأساسية سواء الداخلية منها المرتبطة بالتنمية والدفاع أو القضايا المصيرية المرتبطة بالاحتلال والتدخل الأجنبي.
بل الأدهى من ذلك هو أن النظام الرسمي بمنظماته المختلفة وعلى رأسها جامعة الدول العربية صار جزءا فاعلا في الفوضى التي تعصف بالمنطقة. فشل هذا النظام في احتواء ثورات الربيع والاستجابة لمطالب الشعوب وفي تفادي حمام الدم الذي لا يزال يسيل في اليمن وفي سوريا وفي ليبيا وفي العراق.
فشل مجلس التعاون الخليجي في حماية شعوبه من الأزمات التي تعصف بدول المجلس ولم ينجح في نزع فتل الأزمة الخليجية وإبطال مخطط حصار قطر كما فشل في منع التدخل العسكري في اليمن وكذا التدخل الخليجي في ليبيا دعما للمشروع الانقلابي.
على جانب آخر موّلت الدول الغنية الانقلاب المصري على الشرعية وأمدّت في عمر المذبحة السورية ووزعت السلاح على كل أطراف النزاع من أجل إطالة أمد الفوضى ومنع نجاح كل انتقال ديمقراطي بعد الهزات الشعبية. الأدهى من ذلك أنها شجعت الفوضى في الجوار الإقليمي مثلما فعلت في تركيا التي لم تجتمع جامعة الدول العربية إلا للتنديد بحضورها في ليبيا.
يمكن القول دون مبالغة تذكر أنّ التغيرات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها المنطقة العربية خلال السنوات العشر المنصرمة قد أطاحت نهائيا بفعالية ونجاعة العمل العربي المشترك. بل يمكن الجزم بأنّ العمل العربي المشترك صار مثيرا للريبة وباعثا على التوجس عند السواد الأعظم من الجمهور العربي بسبب تورط الهياكل والمنظمات العربية الرسمية في المآلات الكارثية للتغيرات الأخيرة.
وهم الأمن والأمان
مقولة الأمن والأمان هي واحدة من المقولات المركزية التي يتأسس عليها الخطاب السياسي والسرديات الإعلامية الرسمية في الإقليم. نشطت هذه المقولة خلال التحركات الشعبية الأخيرة وتصدرت كل خطابات الحكومات العربية والنخب المرتبطة بها وصارت المقولة أحد الأسس المركزية في توصيف الحالة العربية السابقة للثورات واللاحقة عليها.
تتحرك المقولة في اتجاهين : أما الأول فيمثل في التذكير بالحالة السياسية والاجتماعية وخاصة الأمنية التي كانت زمن الاستبداد وهذا التذكير المقصود يحرك في الجماهير الغافلة حنينا لا واعيا لحالة الموت الاجتماعي التي كانت قبل الانفجار التونسي الكبير باعتبارها حالة إيجابية. في نفس السياق ينفّر هذا التذكير من الثورات ومن الاحتجاجات الشعبية التي لا تزال جارية باعتبارها سببا في انعدام الأمن والأمان وفي انتشار الفوضى والاقتتال.
أما الاتجاه الثاني وهو الأخطر فيتمثل في اعتماد المقولة نفسها لتبرير القمع بحجة الحفاظ على الأمن واستعادة الأمان. في هذا الإطار نشطت المقولات الموازية بمرجعياتها الدينية تارة مثل مقولة الفتنة والطاعة والخروج عن الحاكم وبخلفيتها السياسية طورا آخر مثل مقولة الحرب على الإرهاب ومحاربة التطرف. وهي كلها أنساق مترابطة تعمل على تبرير القمع وإجازة قتل المتظاهرين وسجنهم وهو ما نشطت في ترويجه أبواق الثورات المضادة بحجة استعادة الأمن.
لم يكن هناك أمنٌ ولا أمان في الحقيقة وإلا لما ثارت الشعوب وخرجت تواجه الرصاص بوجوه مكشوفة فمعنى المقولة ليس نفسه عند الشعب وعند السلطة. يتلخص الأمن والأمان عند السلطة في طاعة الحاكم الظالم وفي التمكين للاستبداد بينما يتلخص عند الشعوب في الحرية والكرامة فلا أمن بلا كرامة ولا أمان بلا حرية.
بناء على ما تقدّم يكون الوعي الجمعي العربي قد أنجز واحدة من أكبر فتوحاته المعرفية بأن أطاح بأخطر المقولات التي كانت تحول بينه وبين إدراك حقيقة الواقع الذي يحيط به. إن انهيار هذه الأوهام يمثل اليوم مدخلا هاما لمرحلة جديدة في حياة شعوب المنطقة رغم كل التضحيات ورغم كل الدماء وهي مرحلة لن تكون حتما كسابقاتها.
وسوم: العدد 863