الصراع في ليبيا وعليها وحكاية النفاق الدولي
ما يجري في ليبيا الآن يكاد لا يصدقه عقل. عاصمة تحاصر من ضابط متمرد مدعوم من الخارج، يغلق المطارات ويقصف الميناء والأحياء السكنية والمباني والنوادي والمستشفيات والأسواق، وكل هذا بعد لقاء موسكو بتاريخ 12 يناير وإعلان وقف إطلاق النار، ومؤتمر برلين بتاريخ 19 يناير، والدعوة لحظر توريد الأسلحة من المجتمعين أنفسهم وتشكيل لجنة عسكرية مشتركة، لتثبيت وقف إطلاق النار، وبعد قرار مجلس الأمن 2510 الذي اعتمد يوم 12 فبراير بغالبية 14 صوتا. كأن حفتر يقول للعالم كله: قولوا ما تشاؤون وأنا أفعل ما أشاء».
المسألة الليبية، كما تجري فصولها منذ أكثر من تسع سنوات، نموذج جيد للنفاق الدولي لسبب بسيط وهو، أن أقوال الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي تختلف عن أفعالهم. فبينما تعتمد القرارات في غالبيتها بالإجماع، ما عدا قرار تفويض التدخل العسكري 1973 (2011) الذي اعتمد تحت الفصل السابع بعشرة أصوات فقط، إلا أن الممارسة على الأرض لعدد من الدول الأعضاء في المجلس تناقض تماما تلك القرارات. مثلا تم اعتماد وثيقة الصخيرات أو «الاتفاق السياسي الليبي» داخل مجلس الأمن بالإجماع في القرار الشهير 2259 (2015) باعتباره خريطة طريق لحل المسألة الليبية، إلا أن مسلكية بعض أعضاء المجلس تذهب في كل الاتجاهات إلا باتجاه تلك الوثيقة.
لنأخذ مثلا فرنسا كنموذج لهذا النفاق الدولي. ترى فرنسا أن مصالحها الاستراتيجية في ليبيا تقوم على عمودين، تأمين تدفق النفط الرخيص نسبيا، وضبط مرور المهاجرين إلى أوروبا. فالديمقراطية في ليبيا ليست أولوية بالنسبة لفرنسا، ولذلك فإنها تفضل أن يحكم ليبيا رجل قوي، وأن تكون هناك دولة مركزية مستقرة لتأمين تلك المصالح الاستراتيجية. وقد قتل ثلاثة جنود فرنسيين بتاريخ 20 يوليو 2016 في بنغازي، في عمليات عسكرية، حسب بيان وزارة الدفاع الفرنسية، أي أن التدخل الفرنسي لم يقتصر على الدعم السياسي لحفتر، بل بالمشاركة في المعارك.
أما مصر، التي ساهمت في اعتماد القرار 2259، وكانت آنذاك عضوا في مجلس الأمن، فترى أن ليبيا دولة جارة ذات حدود طويلة معها، ولا تستطيع أن تتحمل دولة ديمقراطية حقيقة قد تأتي بالإسلاميين، كما حدث في انتخابات 2012، التي أوصلت التيارات الإسلامية وقيادات ثورة 17 فبراير إلى السلطة، بالضبط كما حدث في انتخابات مصر يومي 16 و17 يونيو 2012 وأوصلت الإخوان المسلمين إلى السلطة، ولذلك تدخلت إلى جانب حفتر منذ البداية، وشاركت في العمليات العسكرية خاصة بالطيران. التقت إذن المصلحتان الفرنسية مع المصرية، وانضمت إليهما وربما سبقتهما، الإمارات العربية المتحدة والسعودية، لدعم الضابط المتمرد، خليفة حفتر، الذي عاد من أمريكا بعد غياب زاد عن العشرين سنة، ليلعب هذا الدور المرسوم له. تركيا وقطر من جهتهما بقيتا تدعمان المؤتمر الوطني العام، الذي فاز في انتخابات 2012 وفازت فيه أغلبية إسلامية. وعندما خسر أنصار المؤتمر انتخابات 2014، حيث فازت فيها التيارات الوطنية واليسارية، بأغلبية مقاعد مجلس النواب، حدث الانشقاق بين المجموعتين، حيث رفض المؤتمر الوطني العام، أن يسلم السلطة لمجلس النواب المنتخب، الذي جعل مقره طبرق في الشرق، وأصبح تحت حماية اللواء خليفة حفتر.
أصدر البرلمان قرارا بتعيين حفتر قائدا للجيش، ومنحه رتبة مشير، بينما قامت المحكمة الدستورية في طرابلس بإلغاء نتائج انتخابات 2014. أخذ الانقسام الليبي أبعادا خطيرة بين الشرق والغرب، بينما ظلّ العديد من المناطق، خاصة في الجنوب يخضع لحكم القبائل والميليشيات المحلية. مدينة سرت وقعت تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» إلى أن قامت عملية «فجر ليبيا»، المدعومة من طرابلس بتحرير المدينة وطرد «داعش» منها عام 2018.
في هذه الأجواء الصعبة كان على مبعوثي الأمم المتحدة أن يعملوا. لقد بلغ عددهم ستة مبعوثين لغاية الآن، أولهم وزير الخارجية الأردني الأسبق عبد الإله الخطيب، وآخرهم وزير الثقافة اللبناني الأسبق غسان سلامة. كانت أهدافهم في البداية أن يبقوا على الدولة متماسكة وملتفة حول القيادة الانتقالية، لغاية وصول مرحلة الانتخابات والاستفتاء على دستور جديد، من جهة، ومن جهة ثانية العمل على جمع أسلحة الميليشيات واستبدالها بقوى أمن وجيش موحد، وقد فشلا في تحقيق الهدفين.
لقد حاول ستة وسطاء أن يقنعوا الأطراف المتنازعة للقبول بحل توافقي بدون جدوى، وحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن يجد سبيلا للتسوية بين حفتر والسراج، بدون نجاح ثم قام رئيس وزراء إيطاليا، جوزيبي كونتي، بالجمع بينهما في باليرمو، بدون أي تقدم، وكان آخر لقاء بين الرجلين في أبو ظبي بتاريخ 28 فبراير 2019 استغله حفتر ليبسط سيطرته على الجنوب. بعد اللقاءات يعود كل إلى موقعه، السراج مسلحا بالشرعية، وحفتر مسلحا بالقوة التي وفرها له حلفاؤه، الأول يحاول أن ينتصر بالقانون الدولي، والثاني يريد أن يحسم بالقوة المسلحة. ولما اقترب حفتر من طرابلس، ولم ينفعه القانون الدولي ولا الشرعية، قام السراج بعقد معاهدة مع تركيا وطلب منها التعاون العسكري، فقامت الدنيا على رأس السراج، وانطلقت سلسلة من المبادرات لاحتواء الأزمة… وهذا هو عين النفاق مرة أخرى، سكوت على تدخل واحتجاج على آخر.
هل من أمل في حل سياسي قريب؟ هل هذه الاجتماعات والتحركات الدولية ستفرض وقف إطلاق نار والعودة إلى طاولة المفاوضات؟ هل شعار غسان سلامة والأمين العام بأن لا حل عسكريا للمسألة الليبية صحيح؟ أم أن حفتر يقلد ما يقوم به بشار الأسد في سوريا والحوثيون في اليمن، وسيستمر في الحرب حتى النهاية؟ أنا لا أريد أن أجيب عن هذا السؤال، لكني سأضع بعض الأسباب التي عطلت وتعطل عودة ليبيا إلى الاستقرار والانتقال إلى الديمقراطية وسيادة القانون:
أولا- ان حكم القذافي الطويل ترك ليبيا خاوية، بدون مؤسسات حقيقية، أو مجتمع مدني أو جيش قوي. لقد حول ليبيا إلى حقل تجارب لأفكاره الغريبة والمتقلبة وممارساته الغريبة، خاصة بعد عام 1977 عندما أقر فكرة الجماهيرية واللجان الشعبية. وما هي إلا سنوات قليلة حتى تمكن من تدمير كافة البنى الاجتماعية والتنظيمات المهنية والاتحادات، وسلمها لمجموعات أقل ما يقال فيها إنها ذات مستوى تعليمي منخفض، وسهل بذلك تحويل البلاد إلى مزرعة يملكها هو وأولاده وقمع كل من اعترض على هذا التوجه.
ثانيا- لقد تجاوز حلف الناتو الولاية التي فوضت له بعد اعتماد القرار 1973 (2011). ترك الناتو بلدا مدمرا وبنى تحتية محطمة بعد قصف استمر لسبعة شهور خلف نحو 20000 قتيل وأضعاف هذا الرقم من الجرحى، عدا عن المشردين. لقد تم نهب مخازن الأسلحة العديدة وانتشرت الميليشيات المسلحة وتحولت ليبيا إلى بلاد تطفح بالسلاح دخولا وخروجا، فاض منه الشيء الكثير على البلدان المجاورة مثل مالي، وتمكنت الميليشيات المسلحة العديدة المنتشرة في كل مكان من تعطيل الانتقال السلمي للسلطة.
ثالثا- ليبيا دولة مهمة بالنسبة للاتحاد الأوروبي ودول الجوار والاتحاد الأفريقي. والتدخل في الشأن الليبي، بدأ مبكرا خاصة من مصر، الدولة الأكثر علاقة بليبيا تاريخيا. كل دولة تريد أن تضمن مصالحها في هذا البلد قليل السكان، غني الموارد. كانت هناك منافسة بين فرنسا من جهة وإيطاليا من جهة أخرى. ثم دخلت روسيا الاتحادية ساحة المنافسة إضافة إلى تركيا. ثم انضمت كل من السعودية والإمارات وقطر للتدخل في الشأن الليبي، ودعم طرف ضد طرف آخر. النتيجة أن الصراع الليبي تحول إلى صراع بالوكالة.
رابعا- وهو المهم، عدم تماسك أعضاء مجلس الأمن واختلاف رؤاهم، رغم أن معظم القرارات اعتمدت بالإجماع، إلا أن الممارسة على الأرض كانت مختلفة تماما. في الشأن السوري كان الفيتو المزدوج الروسي الصيني يعطل القرارات. أما في الشأن الليبي فالجميع يصوت مع مشروع القرار ثم تمارس كل دولة ما تراه مناسبا لمصالحها.
خامسا- تقلب الموقف الأمريكي من الملف الليبي من التدخل إلى الانكفاء إلى تضارب المواقف. فبعد أن اتصل ترامب هاتفيا بحفتر يوم 19 إبريل 2019، عاد بومبيو وأعلن أن حفتر يقود ميليشيات مسلحة، ويباعد أمريكا عنه، ثم يقترب أكثر من السراج ليهاجم روسيا بسبب المرتزقة الروس الذين يحاربون إلى جانب حفتر.
نشعر بالأسى لهذا البلد الغني والواسع الذي يعاني ثلثه تقريبا من التشرد والجوع والخوف من الحرب، والخوف من مستقبل غامض. لقد كان بإمكان القذافي أن يجعل من ليبيا سويسرا ثانية وأن يجعل كل ليبي مليونيرا، كما نصحه الرئيس الأسبق للاتحاد السوفييتي، ليونيد بريجنيف، عندما ذهب ليشتري السلاح. وها هي البلاد تواجه ديكتاتورا آخر، إذا ما تمكن من السيطرة على ليبيا فقد يكون القذافي قياسا له «الأم تيريزا».
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرس
وسوم: العدد 865