ليست صفقة قرن بل وثيقة استسلام

ليس دقيقا، لا بل ليس صحيحا ومغلوطا جدا، القول إن حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية وإدارة دونالد ترامب الصهيونية باشرتا في تطبيق، أو طبقتا ما يسمى صفقة القرن، الرامية لتصفية القضية الفلسطينية على الأرض، فالأرض كلها تحت الاحتلال. وبإمكان أي مجندة إسرائيلية، أن تقتحم أي حارة من حارات رام الله، وغيرها من المدن الفلسطينية، التي يفترض أن تخضع لـ”السيادة الفلسطينية، وفق اتفاق أوسلو المشؤوم، وتعتقل وتعيث فسادا. ولا أفهم عن أي تطبيق للصفقة يتحدثون.

هذه ليست إلا إشاعات ترمي إلى ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول التهويش والتهويل والتخويف، التي يقودها صهاينة البيت الأبيض، لحمل الفلسطينيين على القبول بهذه الصفقة الوهمية. وردد هذه التهديدات ومحاولات الابتزاز، أكثر من مسؤول أمريكي بالقول، إما أن تقبلوا بالعودة إلى طاولة المفاوضات، وإما أن نطلق يد إسرائيل في ضم ما يحلو لها من أراضي الضفة الغربية، لا سيما الأغوار وشمال البحر الميت وغيرهما. والغرض طبعا زرع اليأس في نفوس الفلسطينيين، بالتشديد على أن المسألة مفروغ منها، وأنه لا خيار أمامهم سوى القبول بالأمر الواقع.

والثاني إقناع العالم وشعوب بعض الأنظمة العربية الخليجية منها، على وجه الخصوص، أو إعطاء الانطباع بأن هناك حقا خطة سلام، وأن هناك نوايا فعلا صادقة لدى إدارة ترامب والصهاينة الملتفين حوله لحل القضية الفلسطينية، وأن الفلسطينيين، كما عودوا العالم دوما، يرفضون كل ما يعرض من خطط سلام. وبالفعل بدأ بعض أبواق هذه الأنظمة العربية، لاسيما في السعودية يلعب على هذا الوتر، ويردد هذه الأكاذيب والقول إن “هذه الخطة قد لا تكون كما يشتهيها الفلسطينيون، ولكن عليهم القبول بها، لأنها تظل أفضل من لا شيء، وقبل أن يتلاشى اسم فلسطين بالكامل من على الخريطة السياسية، وما هذا إلا جزء من حملة الابتزاز الأمريكية. ولكن ما لم تذكره الإدارة الصهيونية في البيت الأبيض، هو أن صفقتها المشؤومة والوهمية لم تترك للفلسطينيين شيئا يتفاوضون حوله، ليس أكثر من محميات ومعازل وجزر غير مترابطة جغرافيا، تفضلت عليهم بتسميتها دولة، والاستعداد بالاعتراف بها، صفقة لا تشمل القدس التي ستكون العاصمة غير المقسمة لدولة إسرائيل، وتسقط ملف اللاجئين، تدعو الفلسطينيين إلى مفاوضات على دولة من غير حدود، ولا سيادة، لا على ما في جوف الأرض ولا على ما فوقها، ولا في أجوائها، والبقية الباقية معروفة.

باختصار إن خطة ترامب تحمل في طياتها بذور تصفية القضية الوطنية الفلسطينية. وان ما تعرضه أقل بكثير أو لنقل ليس أكثر من تكريس ما هو موجود على الأرض، وما هو تحت أيدي الفلسطينيين حاليا، باعتراف فلسطيني وعربي ودولي. إذن فإن ما أعلنه دونالد ترامب بينما كان يقف إلى يمينه بنيامين نتنياهو، الذي كان كما نقول بالعامية “مزغطط” من الفرح في البيت الأبيض في يوم الثلاثاء الأسود الموافق الثامن والعشرين من يناير/ كانون الثاني2020 ، بحضور سفراء دول عربية خليجية ثلاث هي الإمارات وعمان والبحرين، ما أعلنه في ذاك اليوم الأسود ليس سوى تثبيت واقع قائم، ووثيقة استسلام رسمية، مطلوب من الفلسطينيين التوقيع عليها، لإغلاق هذا الملف المتواصل منذ أكثر من قرن، وطي صفحة من أكثر صفحات منطقتنا سوادا. وتشييع القضية الفلسطينية إلى مثواها الأخير، بقبول ما يسمى صفقة القرن، أو العصر.

إذن فلا الذين يقولون إن الصفقة تطبق على الأرض، دقيقون في أقوالهم، ولا الذين يدعون الفلسطيينين للقبول بالصفقة للحفاظ على بقايا فلسطين صادقون في خوفهم على فلسطين وأهلها.

ذلك لن يحصل ما دام هذا الشعب صامدا على أرضه ومتمسكا بها ولا يغادرها، وهذا لن يتم طالما بقي في هذا الشعب عرق واحد ينبض، فما بالك بوجود أكثر من13 مليون عرق نابض، نصفهم فوق أرضه. وقول قارئ معلقا على مقال الأسبوع الماضي، تحت عنوان “فرص نجاح صفقة القرن صفر، وتصعيد المقاومة يسارع في إسقاطها”، “الصفقة كحدث قهري حدثت واستقرت بقوة أمريكا ومكر إسرائيل”. ولكن ما نقوله إنه ليست هناك صفقة أصلا حتى تطبق، وإنما كما قلنا محاولة لتثبيت واقع الاحتلال على الأرض بوثيقة استسلام فلسطينية، وبدون التوقيع الفلسطيني لن تكون ذات قيمة، وهذه الصفقة وهمية ولن تتحول إلى مفردات تنفيذية على أرض الواقع، لأنها غير قابلة للتنفيذ، وأن الطرف الآخر/ الفلسطينيين، غير مستعد للتوقيع، فهو لم يهزم بعد، ولن يهزم حتى يوقع على وثيقة الاستسلام. إن فلسطين وقضيتها باقيتان ببقاء الشعب الفلسطيني على أرضه، وهو باق ولن يغادر، وهذا الشعب لن يفنى وقد أثبت ذلك أكثر من مرة.

ويقول القارئ نفسه، “كان بودي لو تناولت كيفية صناعة جيل فلسطيني لمواجهة مستقبل صفقة القرن”، وأقول له، لكن الشعب الفلسطيني عزيزي القارئ، بأجياله المتلاحقة هو شعب متجدد وحيوي، وهو يصنع أجياله ويطورها وفقا للمرحلة، وهو قادر على مواجهة الفيروس الصهيوني كيفما تجدد وتطور. وأذكر مجددا بما قاله الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: “إن الفلسطينيين طينتهم تختلف عن باقي البشر، فقد احتللنا أرضهم، وأطلقنا عليهم الغانيات وبنات الهوى، وقلنا ستمر بضع سنوات، وسينسون وطنهم وأرضهم، وإذا بجيلهم الشاب يفجر انتفاضة الـ87.. أدخلناهم السجون وقلنا سنربيهم في السجون. وبعد سنوات، وبعد أن ظننا أنهم استوعبوا الدرس، إذا بهم يعودون إلينا بانتفاضة مسلحة عام 2000، فقلنا نهدم بيوتهم ونحاصرهم سنين طويلة، وإذا بهم يستخرجون من المستحيل صواريخ يضربوننا بها، رغم الحصار والدمار، فأخذنا نخطط لهم بالجدران والأسلاك الشائكة.. وإذا بهم يأتوننا من تحت الأرض وبالأنفاق، حتى أثخنوا فينا قتلاً في الحرب الماضية، حاربناهم بالعقول، فإذا بهم يستولون على القمر الصناعي عاموس، ويدخلون الرعب إلى كل بيت في إسرائيل، عبر بث التهديد والوعيد، كما حدث حينما استطاع شبابهم الاستيلاء على القناة الثانية.. خلاصة القول، يبدو أننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حل معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال”.

وردا على قارئ آخر يقول “للأسف لم تكن هناك مقاومة، لكي يتم تصعيدها، كما يطالب الكاتب والشكر موصل لقادة الشعب الفلسطيني”. اختلف مع صديقنا القارئ كل الاختلاف، يا رجل حرام عليك أن تنفي وجود مقاومة فلسطينية يومية على الأرض تقدم فيها الشهداء، فكيف تسنى لهذا الشعب أن يبقى على قيد الحياة ويتكاثر، رغم المؤامرات الاستعمارية والدولية والعربية المتواصلة عليه، منذ وعد بلفور قبل أكثر من قرن من الزمن. المقاومة يا عزيزي ليست “طخطخة وبس” إنها صمود وعراك يومي وكفاح ومواجهات يومية، ومقاومة شعبية لا تنقطع، وصراع وجودي بيننا وبين الحركة الصهيونية وأعوانها وهم كثر. الصراع ليس على بضعة أمتار فحسب هنا أو هناك.

وأخيرا إننا لا نقول ذلك من باب العند والرفض، الذي نُتهم بهما كفلسطينيين وأول المتهمين لنا هم “بعض أشقائنا”، طبعا وعصابات نتنياهو والإدارة المتصهينة في البيت الأبيض، فحتى أوروبا لها رأي آخر، وهناك محاولات جادة من قبل بعض الدول بعضها وازن للاعتراف بدولة فلسطين، بل هي مشروع قرار مطروح على اجتماع الاتحاد الأوروبي في بروكسل، للاعتراف بدولة فلسطين على حدود الرابع من يونيو/حزيران، ردا على تهديدات نتنياهو ووزير جيشه المستوطن نفتالي بنيت، بين الحين والآخر، بضم الأغوار ومناطق أخرى في الضفة.

وأختتم بالقول إن حربنا مع إسرائيل ليست على بضعة كيلومترات هنا وهناك، بل معركة وجود، واعتقد أن الفلسطينيين أهل لها. الفلسطينيون يعرفون هذه الحقيقة والإسرائيليون يعرفونها جيدا ومدركون لها، ولهذا السبب يريدون البصمة الفلسطينية فبدونها لن يهدأ لهم عيش، ولن يشعروا بالاستقرار حتى لو حصلوا على بصمات كل الأنظمة العربية، فلا قيمة لها من دون قبول صاحب الشأن.

وسوم: العدد 869