التحليق خارج أقفاص الاستبداد

د. سماح هدايا

إنّ الرؤوس الخارجة من أقفاص الاستبداد لا تستطيع أن تحمل عقلا ثوريا، ولا ضميرا  عادلا، ولا فكرا نافعا..لذلك هي عاجزة عن تمثيل الثورة

لماذا ينزعج بعض المعارضين من نقد  الائتلاف ومن نفد قادته ومتنفذيه، ونقد خطابهم  ونقد جنيف 2؟ هل لأنهم يؤمنون فعلا بأداءات الائتلاف وأداءات  أصحاب الأمر فيه؟ أم   خوقا من فقدان السيطرة على حجم النقد؟  أم حالة النخبوية السياسية التي ترى الآخرين قطيع غوغائية وشعبوية لاقيمة لرأيها وموقفها؟  أم لأنّ العقلية الفوقية تجعل السلطة قوى مهيمنة عليا فوق الخطأ وفوق الانتقاد وترى المساس بها شبيها بالمحرمات؟

إنّ جوهر الخطأ الذي يتعامى كثيرون؛ فلا يرونه أن الائتلاف، كهيئة سياسية، مهما بلغت من العظمة والقوة؛   لا يمكن أن تملك الثورة، ولا أن تمثل الثورة وتمسك بخيارها ومصيرها؛ فهناك فرق كبير بين أن تكون ممثلا  للثورة، وأن تكون مندوبا عن شلل متناحرة، وعن أنظمة دولية لها مصلحة ما  في استغلال الثورة  لغرض معيّن، أو في  دعم المعارضة على رؤية معينة.  ولعل المنظور الثوري هو جوهر الخلاف بين من ينتقد بمصداقية الائتلاف وممارساته ، وقلبه معلق بالثورة، وبين من يدافع عن الائتلاف وأدائه، متغاضيا عن كثير   الأشكال اللاديمقراطية،   واللاوطنية الجارية تحت مظلة الائتلاف الذي يفترض  به أن يكون ممثّلا للشعب والثورة كما يدّعون.

إن فقدان الثقة بالائتلاف وأدائه، وبالمعارضة السورية، عموما،  له مسوغاته الكثيرة الواقعيّة، وليس ، كما يشيعون، مجرد حالة سورية من الفوضى والغوغائية والتقاتل. الشعب السوري  ثار وقدم تضحيات كبيرة جدا من أجل الحرية والكرامة.  ولذلك فمن غير المقبول قمع حرية التعبير  المسؤول،  وتكسير الإرادة  في تحديد  المصير السياسي، والرّضوخ للممارسات القمعية .  كان من الواجب  احنرام تساؤلات الشعب ومخاوفه وتقديم مكاشفة حقيقية أمامه حول طبيعة الضغوط الدولية وحول خيار جنيف وخلفيات جنيف وإملاءاته، فالريبة والشكوك لا علاج لها إلا بالصدق والمكاشفة وإشراك الشعب بالحقيقة. وإلا فسيدو الأمر  خيانة واستصغارا. وبالتالي،  لا غرابة إن قام الشعب وقلب  الطاولة على الجميع

   

   جنيف 2 أوجد حالة من انقسامات جديدة منطقيّة، وغير منطقية، في المعارضة والثورة والائتلاف، هناك ملاحظات كثيرة على هامش جنيف لابد من تأملها:

1- هل كان الذهاب إلى جنيف 2 يسير  على أرض متماسكة  مدعّمة بالكبرياء الثوري والإخلاص  للهدف الوطني في مبدأي :الحريّة والكرامة، ومحصّنة بالإرادة الثوريّة صاحبة الدم؟ لأن ذلك ضرورة وأولوية لتمثيل روح الثورة والصمود في وجه الاستقطابات... ودرءاً لأي انصياع داخل جنيف 2  يتنازل لتوجيهات أمريكا وروسيا وغيرهما، والفشل في  تحقيق مكاسب حقيقية سياسية على الواقع، والتحرّك  بلا هدى في متاهة العروض الإنسانية والإغاثيّة والإجرائيّة المقدّمة.. هم سيحتالون على المعارضة بمنح الشعب مكاسب جزئية  شكلية لتلميع إنجازات المعارضة وللخداع والإيهام بإنجاح عملية جنيف 2 ، مثل فتح بعض الممرات الإغاثيّة المؤقتة  وإدخال لقيمات المساعدات، ومثل بعض الإفراجات عن جزء بسيط من المعتقلين.....ماذا سيقدم فريق الائتلاف  لاحتواء هذا الأمر  ومنع التحايل و الضياع في الإجراءات والشروط ؟

2- وفد النظام سيحاصر المعارضة بالتفاصيل والجزئيات الماكرة ...ومعروف عبر التاريخ  أنه قد تغرق أمم في مستنقعات التفاصيل، عندما تخوض في حوار ومحادثات سلام أو في عملية تسوية مع وكلاء  الطغاة المتجبرين؛ فهل لدى فريق الائتلاف  خبراء ناضجون في المحادثات السياسية؟ وهل لديه رؤية عميقة وشاملة، ثم استراتيجية عمل وفريق متعاون لتنفيذها وتجاوز إشكاليات هذا الأمر الخطير؟ أم  سنكتفي بالتنظير والـتبرير وندخل في حالة تسوية ومحادثات وتسويف، ومناظرات وجدل في المصطلحات يهدر الوقت والدماء ويؤجّل عملية الانتقال السياسي والحل،  و يهشّم الطاقات المقاتلة على الأرض؟

3- الحماقات الكثيرة التي يرتكبها فريق الطاغية ...، يجب  ألا تستسهل  في أعين فريق الائتلاف عملية هزمه  سياسيا، وألا تستصغر مهمّة التغلب عليه، فيخدع نفسه وشعبه بالانتشاء  الثوري ببعض  انتصارات شكلية إعلامية، ويطبّل ويزمّر ويزيّن القبح  ...فالفرقاء الآخرون ليسوا وحدهم وليسوا أغبياء، وجنيف 2 خطة طويلة وعملية سياسية صعبة، وهي  جاهزة سلفا لاحتواء الثورة ومشروع الاستقلال ورجالات الثورة. أمّا تحجّر خطاب  وفد النظام،   فهذا عادي لا جديد فيه، وقد خبرته العقول على مدى عقود، وخصوصا في زمن الثورة، وهو قد يجعل خصمه في وفد الائتلاف  منتصرا متفوقا نسبيا، لكنّ المغالاة في مدح عمل فريق الائتلاف وهو  عادي، إن لم يكن أقل من عادي، بحسب كثير التحليلات،  والمبالغة في تضخيم النصر، خطأ كبير  يوقع في شرك  أوهام التفوق ، ويؤدّي  إلى نتائج وخيمة، أهمها الغرور ثم الخروج عن الواقع ومن حلبة الصراع باحباط واسع وشديد، تنتقل تأثيراته إلى الشعب.

3- كان في الدعوة  إلى حماية الأقليات في سوريا خطة ماكرة لعلها تهدف في جوهرها  إلى حماية روح النظام الحالي والحفاظ على اللون الأمني والعسكري القديم المفيد لقوى الهيمنة الدولية...المفروض أن يتعامل معها الائتلاف بطريقة عادلة تمنع العبث بالعقل الجمعي  الشعبي وتوقف اللعب بالورقة الطائفية وورقة الإرهاب.  وببساطة فإن  العلويين الكثيرين الملتفين حول بشار ونظامه، وهم الذين يريدون حمايتهم، مع غير هم من الأقليّات،  من التعصب الطائفي والإرهاب الإسلامي، لن يتخلوا عن بشار ونظامه ....لأنهم كانوا يملكون كل شيء في ظل نظام الأسد وحزب البعث. فهل يعقل  أن يتخلوا عن كل شيء بسهولة ويقبلوا الهزيمة والخسارة؟. هم يدركون أنهم لو قبلوا التنازل سيخسرون....وأيضا سيخسرون مع الزمن ومع سير العملية السياسية،  التي جاءت فوق محيط الدماء، كل شيء كسبوه بالطغيان والفساد والولاء. لذلك حربهم في صف بشار حرب قاتل أو مقتول...والصراع هنا للأسف لا ينتهي كما يريد إيهامنا العالم والحالمون والجبناء  بالتصالح والتعايش والحفاظ على ماكان. إنها معضلة لا فك لها إلا بالحرب. والحرب مستمرة. وأبرياء كثيرون من الجميع يدفعون الثمن وسيدفعون أكثر.

4- - حتى يتحقق جنيف 2....هو بحاجة لناس تقبله على الأرض. لكن الناس على الأرض تحمل سلاحا ضد نظام مجرم سفاح، هو جزء من جنيف 2 . ومع أن هناك انقساما بين حل سياسي وحل عسكري، لكنْ؛  لا مجال للتراجع وقبول الخنوع والتسوية والعودة إلى شيء مما كان..؛ فما كان هو عبودية وطغيان وحرب تطهير.  هم أوصلوا الناس من شدة المرار لترى في حالة الظلام سراب نور، لكن ذلك النكوص مؤقت. والانتفاضات الأشد قادمة قريبا وبقوّة.  الثورة ستغربل  حتى أدق عواطفنا وأفكارنا ومعتقداتنا وانتماءاتنا....

    أخيرا....يبدو أنْ لا إنجازات حقيقية لعمليّة جنيف 2.  إذ يستمر النظام تحت خيمة  جنيف 2 بنهج القتل والترهيب، وإلقاء البراميل المدمرة،  ويستمر في ممارسة الخداع والمراوغة والتضليل الإعلامي المبتذل. ويصر على قول  ما كان يقوله ويدعيه منذ بداية اندلاع الثورة. وسيجري عبر جنيف 2 الترخيص الدوبلوماسي العربي والدولي لاستمرار نزيف دماء السوريين المطالبين بالحرية والعدالة. ولن يتمخّض الأمر عن  تنازل حقيقي واقعي لصالح الثورة والشعب..لكن  حتما سيكون لجنيف2 تأثيرات خطيرة على الثورة وعلى المعارضة؛ فسوف تتراجع عملية التسوية وسوف تتراجع أيضا قوّة المعارضة التقليديّة، التي  لم تنجح في قيادة الحل السياسي  ولا في دعم الثورة والشعب،  وارتكبت الأخطاء الفادحة وأسقطت مصداقيتها، ليتقدم مكانها  قادة جدد  أكثر نضجا ووطنيّة، تبنيهم التجارب اليومية على الأرض.  ولتبدأ مرحلة جديدة  من التفكير السياسي مختلفة عمّا ساد وانتشر.