مخاوفٌ إسرائيليةٌ من مخاطرِ الضم (1)
رغم أن الاستراتيجية القومية الإسرائيلية، والعقيدة الدينية اليهودية، تتفقان كلياً على دولة إسرائيل القوية المتفوقة، ذات السيادة الكاملة على أرض إسرائيل التاريخية أو إسرائيل الكبرى، وتريدان دولةً خالصةً لليهود نقيةً خاليةً من الأغيار، إلا أن هذه المفاهيم المشتركة والأهداف الكلية والغايات البعيدة، لا تنفي وجود خلافاتٍ حقيقية وجذرية في المجتمع الإسرائيلي لجهة ضم أراضٍ فلسطينية بصورة قانونية، وتوسيع مناطق السيادة الإسرائيلية، والشكل الذي سيتم فيه التعامل بعد الضم مع مختلف الأطراف الفلسطينية والعربية والدولية عموماً والأوروبية خصوصاً.
ولهذا يبدو المجتمع الإسرائيلي وحكومته تجاه مشاريع الضم السافرة، مختلفاً مضطرباً غير موحدٍ، ومشوشاً مختلاً غير متزنٍ، ومتردداً مرتعشاً غير حاسمٍ، وخائفاً قلقاً غير مطمئنٍ، إذ يحتدم الجدال الداخلي بينهم، ويتفاقم الاختلاف وتتعالى الأصوات بين نخبهم العسكرية والأمنية والإعلامية، وتتباين آراؤهم وتتعدد توجهاتهم، على خلفية الأفكار الحكومية والمقترحات الأمريكية، سواءً لجهة مبدأ الضم أو توقيته وكميته، أو الطريقة التي سيتم بها، حيث تبرز أمامهم مجموعة من التساؤلات والتحديات، التي يرى فريقٌ منهم أنها خطرة جداً، وتستحق التروي والتأمل، والتفكير الجدي قبل اتخاذ القرار المصيري بشأنها، ويحذرون حكومتهم أن التغاضي عنها أو إهمالها وغض الطرف عنها، سيعود بالضرر الكبير على "دولة إسرائيل وشعبها".
يفضل فريقٌ كبيرٌ من الإسرائيليين الضم الواقعي على الضم القانوني، ويرون أن الضم الواقعي هو الضم الحقيقي، الذي يحقق أهدافهم ويلبي شروطهم، ويقلل إلى درجة كبيرة من أعبائهم ومسؤولياتهم، ويقلص حجم الاعتراضات الدولية عليهم، وهو ما قامت به الحكومات الإسرائيلية فعلياً منذ العام 1967، حيث ضمت بصورة الأمر الواقع مساحاتٍ كبيرة من الأراضي الفلسطينية في القدس والضفة الغربية، وبنت فيها عشرات المستوطنات، وأقام فيها مئات آلاف المستوطنين اليهود، الذين يخضعون في كل شؤون حياتهم للأحكام الإسرائيلية، ويرتبطون عضوياً ويتصلون فعلياً بالقدس وبجميع البلدات الإسرائيلية، وقد يستمر هذا الواقع إلى ما لانهاية، إلى أن يخضع الوضع الراهن إلى المفاوضات والحوار المباشر مع السلطة الفلسطينية.
يرتكز هذا الفريق في موقفه على نصوص الاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية، التي أقر فيها الفلسطينيون مبدأ الضم، وسكتوا عن النوايا الإسرائيلية بشأن المستوطنات الكبرى، رغم أنه لم يتم في حينها حسم نسبة الضم وطبيعة الأراضي البديلة، لجهة المكان والمساحة، إلا أن مبدأ الضم كان مطروحاً، وإن كان على أساس تبادل الأراضي وإزاحة الحدود، وعليه فإنهم يفضلون الضم بالتراضي والاتفاق بين الطرفين، لا بالقوة والقهر من جانبٍ واحدٍ.
ويرون أن استمرار الضم الواقعي إلى حين تحقيق الضم بالتراضي والتوافق، أكثر أمناً وأقل كلفةً مادية ومعنوية، كون السلطة الفلسطينية تتعامل مع الجانب الإسرائيلي على أساس هذا الواقع، الذي قد ترفضه ولا توافق عليه، لكنها لا تقدم على عملٍ مضاد أو ردات فعلٍ شديدة لمواجهته والتصدي له.
الضم القانوني الذي لن تختلف مفاعيله الداخلية في الدولة عن الضم الواقعي، سوى في البعدين المعنوي والقانوني، سيهدد الأمن القومي الإسرائيلي، وسيعرض البلاد إلى هجماتٍ جديدةٍ، ومواجهاتٍ قاسيةٍ، وربما انتفاضاتٍ مختلفة يشارك فيها عناصر ومسؤولون من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، تماماً مثل انتفاضة العام 2000، وهو الأمر الذي من شأنه أن يدخل الجيش المأزوم مالياً بسبب تأخر إقرار ميزانية الدولة، في أزماتٍ ماديةٍ حادةٍ بسبب عجزه عن توفير الإمكانيات والتجهيزات المطلوبة لمواجهة تحديات المرحلة.
يحذر هذا الفريق الإسرائيلي الكبير، الذي يتشكل من لفيفٍ من ضباط الجيش والأمن الحاليين والسابقين، ومن عددٍ غير قليل من المسؤولين السياسيين والإعلاميين والاستراتيجيين الكبار، من تداعيات الضم القانوني على الأمن العام على الحدود الشرقية وصولاً إلى العراق، إذ لن تتمكن الحكومة الأردنية من ضبط الأوضاع على طول الحدود وعمقها، في حال اضطربت الأوضاع الداخلية في الأردن، وسادت الفوضى والاضطراب نتيجة الغضب بسبب الإجراءات الإسرائيلية.
يعتقد فريقٌ كبيرٌ من الإسرائيليين أن الضم الواقعي يحقق أمن إسرائيل الفعلي، ويؤمن حدودها وسلامة مواطنيها، ويبقي على التنسيق الأمني مع الجانب الفلسطينى، ويحافظ على علاقات التعاون وحسن الجوار مع الأردن، الذي قد يهدد بإلغاء اتفاقية وادي عربة في حال إصرار الحكومة على المضي قدماً في إجراءات الضم.
وعليه فإن مبررات الضم القانوني برأيهم غير حقيقية، ولا مكان لها في سلم أوليات الجيش والأمن، الأمر يعني قطعاً، أن دوافع نتنياهو من الضم هي شخصية وقومية ودينية، وتتعلق به شخصياً أكثر مما تتعلق بالشأن الأمني الإسرائيلي العام، ذلك أن نتنياهو يريد أن ينهي حياته السياسية في رئاسة الحكومة، قبل أن ينتقل إلى رئاسة الدولة أو السجن أو البيت، بعمل كبيرٍ يقدمه لشعب إسرائيل، يجعل منه زعيماً سياسياً وقائداً وطنياً، يحفظه التاريخ وتذكره الأجيال.
كما أن الضم الذي سينهي التنسيق الأمني أو سيضعفه، فإنه سيقضي على أي فرصة للتسوية السياسية مع الفلسطينيين، كونه يقضي على آمال حل الدولتين، إذ سيجعل من المناطق الفلسطينية بؤراً سكانية متفرقة ومتباعدة، لا يمكن لأي إطار سياسي أن يجمع بينها، وبالتالي فإن هذا الإجراء قد يقود إلى حل السلطة الفلسطينية، وإلغاء اتفاقية أوسلو، ما يعني عودة إسرائيل إلى الواقع القديم، مع ما يترتب عليها من مسؤولياتٍ دولية وتبعاتٍ أمنية، ونفقاتٍ ماليةٍ كبيرةٍ، سواء لتوفير الخدمات للفلسطينيين، أو لزيادة ميزانية الجيش والأمن للقيام بالمهام الجديدة الموكلة إليهم.
هذا يعني زيادة عديد الجيش، واستدعاء الاحتياط، واستحداث فرق حرس حدود جديدة، والانشغال عن الحدود الشمالية التي يتعاظم فيها خطر حزب الله، والاستعداد لعملياتٍ أمنية فردية تشبه عمليات الذئاب المنفردة التي أرهقت كاهل الجيش والأجهزة الأمنية، والتي تنوعت كثيراً وفق المبادرات الفردية بين الدهس والطعن والقنص وغيرها.
مخاوفٌ إسرائيليةٌ من مخاطرِ الضم (2)
يتابع الإسرائيليون قلقهم ويسلطون الضوء على المزيد من مخاوفهم، فيرون أن الضم سيخلق إسرائيل جديدة، بمساحةٍ أكبر وحدودٍ أوسع بكثير، وذلك بالنظر إلى حدود المستوطنات المبعثرة، وحدود الجدار الأمني المتعرج، والطرق الالتفافية الممتدة وغيرها، الأمر الذي يعني زيادة الكلفة المادية، ومضاعفة الجهود الأمنية لحماية وحراسة الحدود الجديدة، التي كانت تسهر عليها السلطة الفلسطينية، وفقاً لتفاهمات التنسيق الأمني المشترك بين الطرفين، ولكن الواقع الجديد سيجعل من المهام الأمنية تحدياتٍ إسرائيلية جديدة، خاصةً في ظل زيادة نقاط الاحتكاك والاشتباك مع الفلسطينيين، واحتمالات بقاء عشرات آلاف الفلسطينيين في المناطق التي سيشملها الضم.
هذا الواقع الجديد سيعيد الصراع مع الفلسطينيين إلى المربعات الأولى، التي يسود فيها العنف والتطرف، وتشيع فيها ثقافة المقاومة ووسائل الاشتباك المختلفة، وتنعدم فيها فرص بناء الثقة والتعايش المشترك، الأمر الذي من شأنه أن يقوي تيار التطرف والتشدد لدى الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، حيث ستنشأ لدى كل طرف قوى منظمة تعمل على تحقيق أهدافها والوصول إلى غاياتها بالقوة والعنف، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى إعادة الاعتبار إلى خيار المقاومة، والتخلي عن كل الخيارات السلمية الأخرى.
كما يعيب هذا الفريق على الحكومة الإسرائيلية عدم التفاتها إلى الجانب الاقتصادي المرير الذي سيعيشه الفلسطينيون، الذي لن يستمر طويلاً عبئاً على الاتحاد الأوروبي والمساعدات الدولية، في ظل غياب أفق خلق اقتصاد وطني وأسواق محلية قادرة على استيعاب العمالة الفلسطينية المتزايدة، هذا يعني زيادة نسبة البطالة، وارتفاع مستوى الفقر، وتزايد معدلات اللجوء إلى العنف، وإذا أُخذ في الاعتبار وباء كورونا الذي قد يطول موسمه، فإن هذا يعني أن إسرائيل ستخلق مجتمعاً فلسطينياً موغلاً في الفقر والفاقة، وغارقاً في المرض والحاجة، وقد يكون حال التجمعات الفلسطينية الجديدة أكثر بؤساً من حالهم في قطاع غزة.
ومما يحذر منه هذا الفريق أن إسرائيل ستواجه أزمةً دوليةً كبيرة، وستخلق لها مجموعة جديدة من المعارضين الدوليين بسبب سياساتها التوسعية، وقد ظهرت إشاراتٌ أوروبية وروسية وصينية وغيرها، تدل على رفض المجتمع الدولي الاعتراف بالإجراءات الإسرائيلية، وتأكيد مبدأ عدم شرعية المستوطنات، وعدم جواز مصادرة أراضي الفلسطينيين، ورفض أي إجراء إسرائيلي أحادي الجانب من شأنه أن يهدد فكرة حل الدولتين.
علماً أن الحكومات الأوروبية قد قطعت شوطاً كبيراً في سياسة مقاطعة المستوطنات الإسرائيلية، وفرضت عليها عقوباتٍ اقتصاديةً وفنية وثقافية وعلمية، وليس من المستبعد في حال تنفيذ الحكومة الإسرائيلية لتهديداتها، أن توسع أوروبا من دائرة عقوباتها لتشمل قطاعاتٍ أوسع وكياناتٍ إسرائيلية أكبر وأهم، فضلاً عن أن بعض الدول الأوروبية، ومنها بريطانيا، تهدد أحياناً باستخدام حقها في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وذلك في مقابل عدم الاعتراف بشرعية ضم الأراضي الفلسطينية، فضلاً عن عدم شرعية المستوطنات المشادة على أراضٍ فلسطينية مصادرةٍ.
أما الجانب الخطر الذي يخشاه فريقٌ كبيرٌ من الإسرائيليين، فهو تشويه صورة كيانهم، وتدمير مفهوم الدولة الديمقراطية التي تتميز بها إسرائيل عن جميع دول المنطقة، وتعزيز نظام الأبارتهايد –الفصل العنصري-، الذي لن تستطيع أي حكومة إسرائيلية أن تدافع عن نفسها في ظل إجراءات فرضه، والقوانين الصارمة في حفظ واقعه ومنع أي خلل أمني من جانبه.
كما أن الضم يعني إنهاء حلم الدولة اليهودية، وهو الهدف الذي عمل لأجله العديد من القادة الإسرائيليين، ذلك أن عملية الضم القانونية الواسعة، ستجبر إسرائيل على الدخول في خيارات الدولة الواحدة، التي تجمع بين اليهود والعرب في دولةٍ ديمقراطيةٍ واحدة، وحينها سيخلق الضم واقعاً قانونياً جديداً مختلفاً، يتعلق بطريقة التعامل مع السكان الفلسطينيين، واحتمالات منحهم الجنسية الإسرائيلية، في ظل عدم قانونية منحهم حق الإقامة، أو ترحيلهم قسراً خارج حدود الدولة الإسرائيلية الجديدة.
الضم سيعني حتماً نقل الاهتمامات الدولية من الملف الإيراني إلى الملف الفلسطيني، وانشغال الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالتحديات الفلسطينية وصرف الأنظار عن التحديات الإيرانية، رغم أن التهديدات الإيرانية بالنسبة إلى الإسرائيليين جميعاً هي تهديدات وجودية، تتعلق بالأمن الاستراتيجي لهم، وباستمرار كيانهم، والاطمئنان على مستقبلهم، ولكن الضم سيخلق واقعاً دولياً جديداً قد يصرف الأنظار عن الخطاب الإسرائيلي التحريضي ضد إيران، وقد يخفف من حجم الولاء والتأييد الدولي للمطالب الإسرائيلية.
وفي الوقت نفسه فإن إجراءات الضم الإسرائيلية القاسية ضد الفلسطينيين، ستزيد في إقبالهم على الدول المتطرفة التي تعادي إسرائيل، والتي تقف إيران في مقدمتها، التي تبحث عن مختلف السبل لضعضعة الاستقرار الإسرائيلي، ودعم أي عملياتٍ أمنية تمس الكيان، وهذه الإجراءات الحكومية الإسرائيلية من شأنها أن تخلق مناخاتٍ مواتية لإيران ومحور المقاومة الذي يتشكل من قوى عدة تمتد من طهران حتى غزة، وليس من المستبعد في ظل إجراءات القهر والتجريد أن يتسع هذا المحور، ويجد له أصداءً أكبر لدى الجمهور العربي والفلسطيني.
لا تعني هذه التساؤلات والمخاوف الإسرائيلية أن الإسرائيليين قد يتراجعون عن مشروعهم، أو قد يرجئون فكرة الضم أو يلغونها، بل إن هذا الفريق يدعو حكومته للتفكير في العقبات، وتقدير التحديات، والعمل الجاد لإيجاد حلولٍ عملية لها، تتجاوز السلبيات وتتغلب على التهديدات، وتخلق حلولاً إبداعية إيجابية جديدة تخدم الدولة العبرية وتعزز مشروعها، وتحميها من مخاطر المستقبل وتهديدات الأعداء.
قد تسقط المخاوف الإسرائيلية مشاريع الضم، وقد تفشل حكومتهم في تنفيذ ما خططت له سنين طويلة، وقد يعجز نتنياهو عن تتويج تاريخه السياسي بعملٍ كبيرٍ يفخر به اليهود، ويبقي على اسمه في سجلات تاريخهم كواحدٍ من أعظم قادتهم، ولكن لا ينبغي علينا أن نعتمد فقط على تناقضات العدو ونتخلى عن عوامل القوة لدينا، ووسائل التحدي فينا، بل يجب علينا أن نبحث عن نقاط القوة فينا ومرتكزات الصمود والثبات عندنا، وهي الوحدة الجامعة، والرؤية الوطنية الشاملة، والبرنامج المشترك، واستمرار نهج المقاومة ومسار النضال بكل أشكاله، حينها سنسقط مشاريعهم، وسننهي احتلالهم، وسنحقق كل الأهداف التي آمنا بها وضحينا من أجلها.
وسوم: العدد 885