رسل الحضارة والرمي بالأطفال من النوافذ
«قال لي الجنرال فلو مساء أمس إنه لم يكن من النادر أثناء الغارات والغزوات أن ترى الجنود وهم يلقون بأطفال من النوافذ فيتلقفهم جنود آخرون، من تحت، على أسنّة الحراب. لقد كانوا ينتزعون أقراط النساء ومعها شحمة آذانهن، ويقطعون أصابع أيديهن وأرجلهن لسلب خواتمهن وخلاخلهن. وعندما يقع عربي في الأسر كان كل الجنود الذين يمر أمامهم وهو يقتاد إلى التعذيب يصيحون في وجهه مقهقهين: (بالإسبانية): فلتتدحرج الرؤوس!» هذا ما دوّنه فيكتور هيغو في مفكرته يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 1852 (وقد كان آنذاك في المنفى في جزيرة جيرزي) بشأن جرائم جيش الاحتلال الفرنسي في الجزائر. كما كتب في المفكرة بأسلوب الاقتضاب البرقيّ: « فظائع الجنرال نغرييه. العقيد بيليسييه: قتل العرب خنقا بالدخان» (المنبعث من النيران التي كانت تضرم في مداخل المخابئ والغيران التي يلجأ لها الأهالي في الجبال). وعاد هيغو عام 1861 للكتابة، بالأسلوب البرقي ذاته، عن جرائم جيش الاحتلال الفرنسي وعن مذابح النساء والأطفال مسميا أماكن بالاسم، مثل تلمسان وقسنطينة. كما تضمنت روايته الشهيرة «البؤساء»، في الفصل المخصص لاستعراض حصيلة حكم الملك لويس فيليب (من 1830 إلى 1848)، تنديدا بغدر الملك بالأمير عبد القادر وبوحشية جيش الاحتلال: «لقد تم غزو الجزائر بالقسوة المفرطة المشطّة. وعلى غرار ما فعل الانكليز في الهند، فقد كان في هذا الغزو من الهمجية أكثر مما كان من المدنية، هذا فضلا عن إخلاف الوعود التي قدمت لعبد القادر». كان ذلك في 1862، بالتزامن مع تنديد هيغو بالحملات الفرنسية والبريطانية على الصين (حرب الأفيون الثانية) والحملة الفرنسية على المكسيك.
هذا أقصى ما تسنى لهيغو اتخاذه من موقف بشأن جرائم جيش «الرسالة الحضارية» في الجزائر ـ تلك الجرائم التي لا تزال شواهدها تحرك المواجع وتلهم الوجدان بعد أكثر من 170 سنة. فقد تجدد الوعي بهذه الحقائق وتجلى بأوضح صورة أثناء استعادة جماجم الشهداء الأبرار الذين استبسلوا في مجاهدة الغزاة رغم الاختلال الهائل في ميزان القوى، حيث أنهم لم يتعاملوا مع الاحتلال الأجنبي بمنطق احتمالات النصر والهزيمة ولا بحسابات الربح والخسارة، وإنما كان لهم من طمأنينة الإيمان الصادق ومن أنوار الفهم السليم لمبادئ الدين القويم ما أهّلهم لشرف الجهاد من حيث هو واجب ديني ووطني. كانوا أسيادا كراما: دعا داعي الجهاد فلبوا. ذلك هو المبدأ الذي أخذ به الشرفاء في الجزائر وليبيا وبقية البلاد الإسلامية التي عدا عليها الأوروبيون، وهو المبدأ الذي ثبت ولا يزال يثبت عليه المقاومون الموقنون بالنصر في فلسطين رغم ما يبدو اليوم من هيمنة العدو وغلبة الباطل ومن تألب جميع الأمم والشعوب والقبائل، وفي مقدّمهم «الإخوة» العرب، على أهل الحق المظلومين والمقهورين تألبا يمثل أرذل صورة من صور النصر المجاني والحب العذري للأعداء من الغزاة الأوروبيين. جرائم «رسل المدنيّة» لا تزال ماثلة إلى اليوم. ولكن الكاتب الفذ المعروف بنزعته الإنسانية ومساندته للمستضعفين لم يتخذ منها موقفا يذكر باستثناء تلك الإشارات القليلة في المفكرة. بل إن هذا الموقف لم يكن علنيا وظل، حسبما يذكر المؤرخ جيل مانسرون، خفيضا متكتما. وما إن قام النظام الجمهوري مجددا، بعد الحرب الفرنسية الألمانية عام 1870، حتى غفل هيغو عن جرائم الاحتلال تماما. إذ يبدو أن سقوط الامبراطور نابليون الثالث (الذي عارضه هيغو أشد المعارضة وقاسى بسببه أعواما طوالا في المنفى) وقيام الجمهورية الثالثة قد أنسياه فظاعة المشروع الاستعماري، حيث أنه لم يندد بعدئذ باستمرار الاستعمار في الجزائر ولا باحتلال تونس عام 1881 (قبيل أربعة أعوام من وفاته). وبهذا عاد هيغو إلى موقفه الأصلي. ذلك أنه قد كان، عام 1830، مؤيدا للمشروع الاستعماري على العموم. كما أنه اجتمع مع المارشال بيجو مرتين: الأولى عام 1841 قبيل ذهاب بيجو لمباشرة منصب حاكم الجزائر، والثانية عام 1846 عندما أتى بيجو يطلب تأييد هيغو، الذي كان قد صار آنذاك عضوا في مجلس الشيوخ، لمشروع الميزانية الذي قدمه للبرلمان لدعم الجيش وترسيخ الاحتلال العسكري في الجزائر. ولكن جيل مانسرون يلاحظ أن هيغو لم يذكر شيئا عن هذا الاجتماع، وإنما يعود الفضل في توثيقه إلى آديل ابنة هيغو التي تنقل عن والدها أنه قال لبيجو: «أعتقد أن مكسبنا الجديد (في الجزائر) أمر مبارك وعظيم. إنها الحضارة في زحفها على الهمجية. إنها الأمة المستنيرة في إقبالها على أمة لا تزال في الظلمات».
وسوم: العدد 885