مصر في مواجهة جبهة ليبيا وجبهة أثيوبيا
مصر الآن في موقف مصيري خطير ؛ إذ تجد نفسها في مواجهة على جبهة ليبيا وجبهة أثيوبيا في وقت واحد . والاثنتان عسكريتا الجوهر ، ولا ينفي هذه العسكرية كون الجبهة الأثيوبية مائية الطابع ، فالإخفاق المتواصل في حل أزمة سد النهضة على النيل الأزرق بين مصر والسودان من جهة وأثيوبيا من جهة مقابلة ؛ ينذر باندفاع سريع للطابع المائي ليكون عسكريا . ولم تعرف مصر في تاريخها الحديث هذه الحالة : أن تكون على حافة حرب في جبهتين . وخلفية هذا الحالة السيئة والصعبة والمنذرة بمتواليات أسوأ وأصعب هي سوء إدارة الدولة المصرية على الصعد كافة ؛ داخلية بكل أبعادها ، وخارجية بكل أبعادها ، والداخلي والخارجي يتفاعلان لصنع أحوال الدول . داخليا : لم تعرف مصر سيطرة للعسكر مثلما تعرف الآن . سيطرة جوفت المجتمع المصري ، وقضت على حيوية قواه المدنية المتنوعة ، وخارجيا : أخرج العسكر مصر من دور كانت نشطة فيه ، وأكسبها احتراما كبيرا لدى الشعوب العربية والإسلامية ، ومنها الشعب المصري ، ونقصد دورها في التصدي للخطر الإسرائيلي . والعسكر لم يكتفوا بإخراج مصر من هذا الدور ، فزادوا وجعلوها حليفا أمينا لإسرائيل . وخارجيا أيضا : أساء العسكر اختيار تحالفاتهم في المنطقة ، فتخلوا عن سوريا ، وعادوا إيران ، وعاملوا غزة بجفوة وسوء نية ، ونسقوا موقفهم منها مع إسرائيل ، وانقادوا خلف النظام السعودي والنظام الإمارتي . والعجيب أن تتبع دولة في وزن مصر وقيمتها " الأصلية " دويلة في وزن الإمارات الضحل وقيمتها القميئة . وفي قضية ضم إسرائيل لثلث الضفة يبدو الموقف المصري الحقيقي خاذلا للفلسطينيين مؤيدا لإسرائيل . غرائب ولا في عالم الخرافات والأساطير حيث يتحكم اللامعقول في سلوك الأشخاص ووقوع الأحداث . والعسكرية أو الشوغيونيت بالمصطلح الياباني تدمر السياسة ، وإذا تدمرت السياسة تناسلت الأخطاء في الدولة داخليا وخارجيا . كيف تبدأ أثيوبيا مشروع سد النهضة في 2011 وتواصل العمل فيه تسع سنوات دون أن يكون لمصر أي تأثير عليه يحفظ حقها التاريخي والقانوني في مياه النيل ، ماء حياتها ووجودها ؟! وكبف لم تنجح اتفاقية المبادىء في 2015 بين مصر وأثيوبيا في حفظ هذا الحق ؟! وهل هي صدفة تلقائية أن تبدأ أثيوبيا المشروع في 2011 ، عام الثورة والقلاقل في مصر وتحفز العسكر للوثوب على كل شيء فيها ؟! الدول تنتصر بهيبتها قبل أن تنتصر بجيوشها ، والقوة الناعمة المتعددة المصادر تغني في مواقف كثير عن القوة الخشنة التي تفتح إذا استعملت في غير موضعها ووقتها ثغرة واسعة للهزائم والخسائر . الآن ، بعد أن دمر عسكر مصر كل قواها الناعمة الفعالة ، تظهر مضطرة للجوء لقوتها الخشنة في الجبهة الليبية والجبهة الأثيوبية . وهذا ما يريده لها أعداؤها الحقيقيون ، وأولهم إسرائيل حليفها الكاذب المنافق ، ودول عربية معروفة ومُعَرَفة . من أكبر منجزات المشروع الصهيوني إزاحة مصر من طريقه ، وتحويلها إلى حليف له . ولنفكر في خلفية عبارة الرئيس الأميركي الأسبق كارتر : " لا أحد يقدر على مواجهة تحالف من أميركا ومصر وإسرائيل " . عبارة وراءها سياسة وتخطيط باح بهما أيضا هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأميركي حين بدأ ما سمي دبلوماسية المكوك بين مصر وإسرائيل بعد حرب 1973. قال : " جئت لاصطياد السمكة الكبيرة " ، كناية عن مصر ، ويقارب ما قاله الاثنان في المضمون والمسار ما قاله السياسي الفرنسي الشهير كوف دي مورفيل لهيكل : " تريد أن تعرف لماذا يخرجون مصر من الصراع في الشرق الأوسط ؟! حتى تدخل إسرائيل في المنطقة . لا دخول لإسرائيل فيها إلا إذا خرجت منها مصر " . وخرجت مصر ، والأصح أخرجت وبسهولة غريبة ، فنتج هذا الدخول الواسع لإسرائيل التي تفرك الآن يديها غبطة بما انتهت إليه مصر من انحسار واسع عميق في المنطقة ، ومن اقترابها المسرع ، ربما ، من حافة حرب في الجبهة الليبية ، وحرب في الجبهة الأثيوبية . وكلتا الحربين شر عليها . والدلائل التي تؤكد دور إسرائيل في مشروع سد النهضة موفورة ، ومنها التزامها بحمايته ، وإتاحة الخبرة الهندسية لبنائه . عسكرة مصر دمرت مصر دولة ومجتمعا وهيبة ودورا . ولنتأمل كيف اتسع نفوذ تركيا في المنطقة والعالم ، وكيف أضحت دولة عظمى في كل الميادين بعد أن خلصها حزب العدالة والتنمية الذي بدأ حكمها في 2002 من سيطرة العسكر . أعداء مصر في عيد من حالها البائس ، وتخاطف الأخطار والأزمات والمشكلات لها من كل ناحية ، ومحبوها في حزن . كيف لا يفرح الأعداء إذا يرونها على حافة حرب في جبهتين ؟! وكيف لا يحزن محبوها إشفاقا عليها من حرب الجبهتين ؟!
***
كتب الشاعر والروائي الفرنسي في مصنفه " المحيط " : " مصر مقدودة من صخر ، واليونان من رخام ، وروما من برونز " .
وسوم: العدد 886