تحريف الأمن القومي العربي.. تحطيم أنظمة لشعوبها!
لا تنقطع حملات إثارة الكراهية ضدّ الفلسطينيين، في بعض الدول الخليجية، وبعدما كانت تبرز في الآونة الأخيرة في نشاط ما يُعرف بالذباب الإلكتروني، فإنّها باتت أكثر صراحة في حسابات علنيّة موثّقة في مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى مقالات منشورة في صحف ورقيّة توزّع داخل تلك البلدان، وظهور شخصيات على قنوات تلفزيونية، أو في تسجيلات على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لا تكتفي بالدعوة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، أو نقد الفلسطينيين لـ "تفويتهم الفرص الممكنة للسلام مع إسرائيل"، وإنما يتبنّى بعضها صراحة الدعاية الصهيونية، بخصوص فلسطين والحقّ التاريخيّ فيها.
وتتزامن هذه الحملات باستمرار، مع أحاديث "الأمن القومي العربي"، التي دخلت أخيرًا إلى حيّز التداول، في النشاط الإعلامي للمثقفين الخليجيين، بالتضافر، بطبيعة الحال، مع الإعلام المصري، وعلى نحو يجعل تركيا في صدارة المهدِّدين للأمن القومي العربي، مع استحضار لإيران، يجعلها في المرتبة الثانية بعد تركيا في الوقت الراهن، وإن كان المصريون لا يحفلون بالعداء لإيران في هذا الوقت الذي لا تحضر فيه "إسرائيل" أبدًا في قائمة أعداء الأمن القومي العربي، ولو في المرتبة 100، وذلك في حين أنّنا لا نعلم أنّ أحدًا مما يستعلن بخطاب الصهينة، قد تعرَّض لأدنى مراجعة من أنظمة، تحاسب، بلا مبالغة، على اللاشيء، وهو الأمر الذي جعل من مفاتيح التقرب لتلك الأنظمة، افتعال الدعاية ضدّ الفلسطينيين بفجاجة ظاهرة، وتكلف بيّن، يفتقد السياقات المقنعة.
لا تنقطع حملات إثارة الكراهية ضدّ الفلسطينيين، في بعض الدول الخليجية، وبعدما كانت تبرز في الآونة الأخيرة في نشاط ما يُعرف بالذباب الإلكتروني، فإنّها باتت أكثر صراحة في حسابات علنيّة موثّقة في مواقع التواصل الاجتماعي،
هذه الحال البائسة، تفرض في الساحتين السياسية والإعلامية، فراغًا من العقل، وبالضرورة فراغًا من الحركة والفاعلية المفيدة والمثمرة، لأنّ المثقف المحترم بين خيارين، إمّا السكوت والانسحاب وترك الساحة لخطاب مهين للعقل يحترفه ردّاحة هذه اللحظة، ممن تتطابق سماتهم العقلية مع بعض المستشارين النافذين، الأمر الذي يؤشّر على السمات العقلية لمتسيّدي المرحلة من صنّاع القرار، وإمّا، وخضوعًا لشهوة البقاء والظهور، تدخل إلى الساحة الفارغة من العقل، ولا تزيد على غوغائيّيها، إلا بديباجات تفشل في منح الرعونة مسحة عقلانية، وهكذا، تمضي هذه السياسات في تحطيم ما تبقى من عقل داخل تلك البلدان، والتي صار حتّى السكوت فيها مكلفًا!
اتخذت سياسات تحطيم العقل المروعة، شكلين أساسيين، الأول الإخفاء القهري بالسجون، وربما القتل، للشخصيات والهيئات التي يصعب تطويعها وإدخالها الكامل والمطلق في الحظيرة، والثاني بفرض خطاب عام يستثير الغرائز البدائيّة في كل شيء، سواء في اختزال معنى الوجود الإنساني في المتع الأوّلية، من مأكول ومشروب وترفيه، بما لا يترك للروح والمعنى الإنساني الأصيل أيّ مجال، أو في خلق أيديولوجيا وطنيّة محمومة وساذجة، ولأنّ شخص الحاكم هو محور هذه الوطنية، ومرتكزها، لا الوطن الذي صار فيها رديفًا للحاكم، ولأنّ هذا الحاكم لا يملك قضيّة قوميّة حقيقيّة، ولا يملك عدوًّا يُعرّف نفسه مقابله، اخترع كراهية الفلسطينيين أيديولوجيا لشعبه، وكذا الحرب على "الإسلام السياسي، الصحوة، الإخوان، تركيا.. الخ"، وبقدر ما تفتقد هذه الأيديولوجيا للواقعية والمصداقية، بقدر ما ينسحب العقل من مجالات هذه الدول، ويترك بقايا مثقفيها ومواطنيها صرعى الغوغائية والغرائزية.
هذه السياسات الظاهرة بعجلة، وبقوّة صادمة، هي من النتائج المؤكّدة للتحالف المتين مع بنيامين نتنياهو، وإدارة ترامب، وبكلمة أخرى، النتائج المؤكّدة، للخيانة الكاملة للأمن القومي العربي الحقيقي، ولأنّها خيانة كاملة، لا بدّ من أن تستغرق بلدان حلفاء نتنياهو وأصدقائه، بتدمير ما تبقّى فيها من إنسانية ووعي، فالتخريب الذي تريده "إسرائيل" للبلاد العربية، لا يقتصر على إضعافها اقتصاديًّا وعسكريًّا، وإبقائها رازحة تحت أنظمة طغيانية من ضمانات استمرارها تبعيتها لـ "إسرائيل"، فحسب، وإنّما تريد بالإضافة إلى ذلك، أيْ "إسرائيل"، إعادة صياغة الرأي العام العربي، ومسخ وعيه، تمامًا.
إنّ حملات الكراهية ضدّ الفلسطينيين، وإحلال العداء لتركيا مكان العداء لـ "إسرائيل"، والتحالف الحقيقي والفعلي مع "إسرائيل"، لا يستهدف الفلسطينيين وقضيتهم، ولا تركيا ومشروعها الإقليمي، بقدر ما يستهدف تلك البلاد نفسها وأهلها ومثقفيها، فإشاعة الغوغائيّة المهينة للعقل، أكبر عدوان يمارسه حلفاء "إسرائيل" على شعوبهم ومثقفيهم وصالحي بلدانهم.
وسوم: العدد887