طريق الخيانة لا يمر بفلسطين… الاتفاق الإماراتي في سياقه التاريخي
«إتفاق إبراهيم» بين دولة الإمارات والكيان الصهيوني برعاية أمريكية جاء تتويجا لمسيرة طويلة بدأها ولي العهد محمد بن زايد منذ نحو عشرين سنة وخاصة بعد وفاة والده الشيخ زايد عام 2004 وإقصاء أخيه الأكبر خليفة كي يصبح صاحب الكلمة العليا في بلد لا يملك شيئا إلا المال. منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، وبعد التشبيك مع مجموعة من القيادات الطموحة في الشرق الأوسط والمرتبطين بالأجهزة الاستخباراتية الأمريكية والإسرائيلية، بدأ محمد بن زايد يسير بالبلاد إلى مرحلة جديدة تقوم على تمثل المصالح الإسرائيلية في المنطقة ونقل مهمة الحماية للدولة الصغيرة إلى إسرائيل كي يصبح قائدا إقليميا ودوليا وينقل دولته إلى لاعب أساسي في السياسات الدولية.
وقد وضعت إسرائيل شروطا ثلاثة على ولي العهد الطموح كي يصبح مؤهلا لذلك الدور الكبير:
– أن يؤمن خطوط الملاحة البحرية في المنطقة التي تؤدي في النهاية مرورا أو وصولا إلى إسرائيل.
– أن يقف ضد حركات الشعوب المطالبة بالحرية والعدالة والديمقراطية والعمل على أن يحكم العالم العربي إما ملوك وسلاطين إلى الأبد أو عساكر يحكمون بالحديد والنار أيضا إلى الأبد.
– والشرط الثالث أن يتم التخلي تدريجيا عن قضية فلسطين والعمل على شيطنة الشعب الفلسطيني ومحاولة إيجاد قيادات بديلة متساوقين مع المشروع الصهيوني.
وإذا ما استطاع هذا الأمير أن يثبت أنه جدير بثقة إسرائيل وحقق هذه المهمات الثلاث سيتم بعدها تأهيله ليلعب دورا أكبر من بلده ويصبح شريكا صغيرا للكيان الصهيوني.
* حول الموانئ، أنشئت شركة موانئ دبي عام 1999 لتصبح الذراع الطويلة لدولة الإمارات للسيطرة على موانئ البحر الأحمر والبحر المتوسط والعديد من الموانئ العالمية. فقد سطيرت على موانئ اليمن الجنوبي مثل عدن وسقطرى وجيبوتي وشمال الصومال وإريتريا وبعض موانئ مصر(السخنة) والجزائر. كما أخذت عقودا لإدارة موانئ في الهند وباكستان وروسيا والصين والسعودية وكوريا الجنوبية وفيتنام.
ويدخل ضمن هذا التمدد تدخلها في حرب اليمن مع السعودية منذ آذار/مارس 2015 ولكن بأجندة مختلفة، بتوافق أو بدون توافق، مع السعودية. فهي لم تدخل بشكل جدي في حرب مع الحوثيين إلا بشكل هامشي في البداية ثم ركزت عملها في الجنوب. كان همها أولا أن تفصل الجنوب عن الشمال فأقامت الميليشيات الجنوبية وأنشأت ما يسمى «المجلس الانتقالي الجنوبي» برئاسة عيدروس الزبيدي الداعم لفكرة انفصال الجنوب عن اليمن وإقامة «جمهورية موز» تابعة تماما لدولة الإمارات. كما أنشأت الإمارات في الجنوب ميليشيات معظمها من المرتزقة وصرفت عليها الملايين وأحضرت عسكريين دوليين وعناصر مخابرات غربية لتدريب هذه الميليشيات الموزعة في محافظات الجنوب مثل الحزام الأمني، وقوات النخبة الشبوانية، وقوات حراس الجمهورية. ويشرف على تدريب هذه الميليشيات في ميناء عصب في إريتريا مرتزقة معظمهم من أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة وإستراليا ومنهم جنرال إسرائيلي مؤسس شركة «سبير أوبريشن» أبراهام جولان، والجندي السابق في سلاح البحرية الأمريكية، إسحاق جليمور. إن قرار الإمارات السيطرة على جزيرة سقطرى يهدف إلى ربط منطقة بحر العرب بخليج عدن، وربط عدن بجزيرة سقطرى وتأمين خطوط البحر الأحمر المستفيدة منها إسرائيل، والتي أصبحت تمر عبر مضائق تيران كمياه دولية بعد أن باعها عبد الفتاح السيسي للسعودية.
* أما عن التدخل في الثورات العربية لإجهاضها وإعادة حكم الطغاة فلا أدل على ذلك من الدور الذي لعبته الإمارات في مصر للإطاحة بأول حكومة مدنية منتخبة بحجة أنها من الإخوان المسلمين واستبدال النظام بضابط دموي متخلف ومغرور. ثم تدخلت في دعم المعارضة في سوريا وساهمت في تحويل الثورة الشعبية المطلبية إلى دماء سائبة ثم غيرت موقفها فجأة في شهر شباط/فبراير 2015 خوفا من سقوط الحكومة في يد «الإسلامويين» كما ادعوا، وأقنعت السعودية بتغيير موقفها أيضا ثم توجه الإثنان لروسيا من أجل التدخل لصالح نظام بشار الأسد. طبعا روسيا لها حساباتها لكنها وجدتها فرصة لابتزاز المليارات من الدولتين. ومنذ عام 2015 والإمارات تدعم حكومة بشار الأسد. أما دور الإمارات في دعم الجنرال المنشق عن الشرعية الليبية خليفة حفتر فلا حاجة بنا إلى الإطالة في ذلك. فهذا شيء معروف ولا اسرار فيه. ليس هذا فحسب، بل ما فتئت الإمارات تعمل على تدمير الثورة التونسية بكل الوسائل القبيحة مستخدمة المال تحت غطاء إنشاء الجمعيات النسوية والشبابية ومراكز البحوث والقنوات الفضائية. وقد وصلت بهم الثقة أنهم سيسقطون الحكم الديمقراطي أن أعلن ضاحي خلفان عشية التصويت على الثقة في رئيس البرلمان قائلا «الليلة سنسقط حكم الإخوان المسلمين في تونس». أما التخريب في الثورة السودانية فقد نجح باستدراج الحراك الجماهيري ليقبل نصف انتصار ويضع رئيس وزراء ضعيفا مثل عبد الله حمدوك. أما الجنرال عبد الفتاح البرهان فقد انصاع للضغط الإماراتي والتقى بنتنياهو في فبراير/شباط الماضي على هامش مؤتمر في أوغندا.
التخريب الإماراتي بالمال جعل العديد من الدول تصمت ولا تصدر بيانات ضد الاتفاقية بمن فيهم الرئيس التونسي الذي أعلن في بداية ولايته «أن التطبيع خيانة». أبحث عن بيانات رسمية واضحة ترفض الاتفاقية صادرة عن العديد من الدول العربية والإسلامية فلم أجد منها إلا حفنة صغيرة من السلطة الفلسطينية والكويت وإيران وتركيا وماليزيا.
* أما التخلي عن القضية الفلسطينية فقد بدأ منذ تسلم محمد بن زايد مقاليد الأمور. لقد حاول أن يخلق قيادة بديلة ممثلة في محمد دحلان. ولكن هذا غيض من فيض يضيق المجال لسرد التقارب من إسرائيل والتباعد عن فلسطين واستقبال الوفود الإسرائيلية. وقصة تسريب العقارات في القدس الشرقية ما زالت ترن في آذان الفلسطينيين وتثير لديهم التسالؤلات الموجعة. لقد آثرت السلطة الفلسطينية أن تسكت عن التطبيع المتعاظم بين أبو ظبي وتل ابيب لعل تلك القيادة ترعوي عن غيها لكنها تمادت أكثر في ظل الصمت الرسمي إلى أن وصل عنق القيادة بإرسال طائرات المساعدات الطبية إلى تل أبيب بدون حتى إعلام السلطة والتي كانت مقدمة لإعلان الاتفاق.
لقد أحسنت السلطة، والتي نادرا ما أتفق معها، في وصف الاتفاقية بأنها خيانة. نعم إنها خيانة. إنها خيانة وقحة تستخدم اسم فلسطين لتغطي عورتها المكشوفة. اذهبوا في طريق الخيانة لكن لا تتعللوا باسم فلسطين والحرص على السلام بين فلسطين وإسرائيل. يذكرني هذا الموقف باعتراف موريتانيا بإسرائيل عام 1999 وإنشاء مكاتب رعاية للبلدين مقابل 50 مليون دولار؟ وكان وزير الخارجية الموريتاني، ولد العافية محمد خونا، قد زار إسرائيل سرا ليهنئ نتنياهو بالفوز في الانتخابات لكن البيان الذي تحدث عن الزيارة برر تلك الخطوة الجبانة بأنها تندرج ضمن جهود موريتانيا لحل القضية الفلسطينية. وهكذا فعل العديد من القيادات العربية السائرة في طريق التطبيع: شيطنة للفلسطينيين ثم عند ارتكاب جريمة التطبيع يعلنون أنهم يعملون ذلك من أجل فلسطين.
ختاما نود أن نؤكد أن المطبعين والمهرولين وعشاق الكيان الصهيوني والنائمين في فراشه والمتوسلين على أبوابه طالبين الرضى منه واللاعقين لأحذيته إنما يتصرفون ضد إرادة شعوبهم من جهة، ومن جهة أخرى فنحن عندما ننتقد القيادات نفرق بينها وبين الشعوب ونحن واثقون أن شعب الإمارات لن يقبل جريمة التطبيع هذه وسكوته خشية العقاب لا علامة للرضى.
الشعب الفلسطيني الذي أطلق مقاومته قبل أكثر من مئة عام لن ينكسر ولن ينحني ولن يساوم على وطنه المتجذر منذ آلاف السنين. والشعب الفلسطيني المناضل لا يؤيد التطبيع لا مستوره ولا علنه ولا من لبس ثوب الرياضة أو وصل سائحا ولا من جاء للتنسيق الأمني ولا من زار الوطن تحت أي غطاء، ولا من توصل إلى اتفاقيات أو معاهدات سلام كاذب. الشعب الفلسطيني بغالبيته الساحقة يعتبر التوصل إلى سلام مسموم مع القتلة والمجرمين والعنصريين المغتصبين للأرض «خيانة» واضحة ولن يطلق عليها غير ذلك. طبّعوا ما تشاؤون لكن لا تستخدموا فلسطين شماعة لخيانتكم. إنكم بهذا الاتفاق المذل والمعيب تختارون جانب الظالم والمحتل والعنصري والمغتصب وستكتشفون بعد فوات الأوان أن هذا الاتفاق سيلحق الأذى بكم وببلدكم وشعبكم وسيتم استغلالكم أبشع استغلال وتتحول مدنكم إلى أوكار للتجسس والمؤامرات على العرب والمسلمين والمناهضين للصهيونية والعنصرية وإن غدا لناظره قريب.