جريمة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وآثارها على المنطقة
أعلنت الحكومة الإماراتية بتاريخ 13 أغسطس 2020م عما أسمته ب "اتفاقية سلام" مع الكيان الصهيوني (التطبيع) متجاهلة بذلك تاريخًا مشرفًا ومجيدًا للشعب الإماراتي في مناصرة الشعب الفلسطيني الشقيق ودعمه للقضية الفلسطينية العادلة، ولقد أجمعت الشعوب الخليجية والعربية على رفض هذه الاتفاقية لما فيها من تضييع للحق الفلسطيني وللمقدسات الإسلامية.
وقد أعلن عدد من الشخصيات الإمارتية عن رفضهم التام لهذه الاتفاقية، قائلين: بأنها لا تمثل الشعب الإماراتي.
إن قضية فلسطين ليست قضية فلسطينية خاصة، بل هي قضية الأمة الإسلامية كلها. والشعوب الحرة في سائر الوطن العربي -رغم ما تعانيه من حروب وقلاقل- أكدت بأن قضية فلسطين هي قضية العرب والمسلمين جميعًا، فاستنكرت هذا التطبيع وعبرّت عن رفضها له.
التآمر الإماراتي على القضايا العربية والإسلامية
تقف الإمارات جهارًا نهارًا في صفّ العدو الإسرائيلي ضدّ الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة، كما تآمرت على أشقائها في الخليج فلم تسلم من كيدها سلطنة عمان، ولم تكفّ أذاها عن قطر، كما تآمرت ضدّ الشعب السوري ووقفت إلى جانب النظام المجرم، وفي العراق نراها تموّل (الحشد الشعبي) الذي يسفك دماء العراقيين ويهجرهم من بلادهم، كما تآمرت مع الأكراد وجماعة الخدمة الصوفية ضدّ الشعب التركي وحاولت قلب نظام الحكم في تركيا لكنها فشلت والحمد لله، وقامت بدعم الحوثي في اليمن حتى وصل إلى الحكم ثم تآمرت مع الانفصاليين ضدّ الوحدة والشرعية في اليمن، وتآمرت مع حفتر ضد الشعب الليبي، وتآمرت على إرادة الشعب في مصر، وتآمرت على تونس والجزائر والصومال والسودان وجيبوتي وجزر القمر ومالي وأفغانستان والشيشان... وغيرها الكثير.
دولة لا يصل عمرها إلى نصف قرن (من مواليد 2/12/1971) وحجم أرضها ضيق وعدد سكانها محدود، أي أنها لا تساوي صفرا على الشمال أمام حضارات الشعوب التي تتآمر عليها!!!
فلماذا تقف وراء كل هذه المؤامرات والأزمات والحروب التي تشهدها المنطقة العربية؟
ومن أين تستمد قوتها في إشعال كل هذه الحرائق لفرض أجندتها على شعوب المنطقة العربية والإسلامية؟
وما مصلحتها في ذلك؟
لكن السؤال الذي يستحقّ أن نقف أمامه طويلاً هو من يقف وراءها؟
من يقف وراء الإمارات؟
مما يسترعي الانتباه أن أول خطوة عملية جاءت مباشرة عقب الإعلان عن التطبيع الرسمي بين الكيان الإسرائيلي والكيان الإماراتي، هي الزيارة التي قام بها رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) وفريقه إلى أبو ظبي. لغرض الوقوف على الحالة الإماراتية!!!
في البداية ينبغي استحضار العوامل التي تستند إليها الإمارات في تنفيذ مشاريع التآمر ونجاحها بنسب متفاوتة من بلدٍ إلى آخر، ولعل أهم هذه العوامل:
- 1. الجهاز الاستخبارات الصهيوني: وهذا يعني بوضوح أن الجهاز الاستخباراتي اليهودي بعد زيارة رئيس جهاز (الموساد) هو المعنيُّ الأول بعملية التطبيع الإماراتية، وهو مهندسها وقائدها، وهو الذي يتولى صهينة الإمارات وتأهيلها للعهد الجديد. وهذا يعني أيضا أن الكيان الإماراتي في – وضعه الجديد – سيصبح مرتعًا خصبا للفساد، ومعبرا خطيرا للتجسس المباشر والاختراق المباشر لمجمل الدول والمجتمعات والمنظمات والشخصيات العربية. ومعلوم أن جهاز “الموساد” الإسرائيلي هو جهاز اغتيالات وانقلابات، مثلما هو جهاز تجسس واستخبارات...
- الصهيونية العالمية: تبادل الزيارات ومجالس التنسيق التجاري وتطابق المواقف تجاه المقاومة الفلسطينية والحركات الإسلامية بين الإمارات وإسرائيل حتى وصل الإمر إلى إرسال جواسيس إماراتيين (الهلال الأحمر الإماراتي) إلى قطاع غزة خلال الحرب الأخيرة عام 2012 ومشاركة طيارين إماراتيين في قصف أهداف في غزة يكشف مقدار التعاون والتنسيق بين الإمارات والصهيونية العالمية.
- الثروة الطائلة: المال هو السلاح الذي أستخدمه حاكم الإمارات في تنفيذ ما أوكل إليهم من مهام وبالذات مع شعوب تعاني من تزاوج الفقر والجهل وهذه البيئة سهلت تنفيذ كل هذه المؤامرات. ويلاحظ المتابع حجم الأموال الطائلة التي تنفقها الإمارات لشراء الولاءات وكسب العملاء والمرتزقة في كل مكان ساعدها في ذلك ارتكازها على ثروة خيالية دون وجود أي مجلس رقابي على أوجه إنفاق هذه الأموال.
- 4. خلية الأزمة: تعاقدت الإمارات مع عدد من كبار المستشارين السياسيين والأمنيين العالمين كفريق توني بلير، وريتشارد كلارك قيصر مكافحة الإرهاب بالبيت الأبيض وأريك برنس مؤسس بلاك ووتر، وتعاقدت مع شركات متخصصة في الأزمات الدولية كشركة ويكي ستارت الإسرائيلية المتخصصة في إدارة الأزمات الجيوسياسية وشركات أخرى في مجال المراقبة والتجسس واستضافت عددًا من المستشارين كأحمد شفيق، ومحمد دحلان للاستفادة من خبراتهم في التآمر على بلدانهم ووفرت لهم كل أسباب الخيانة والارتزاق.
آثار التطبيع على دول المنطقة
ما تسوق له وسائل الإعلام الرسمية الإماراتية من أن الاتفاقية ستمنع إسرائيل من التمدّد وأنها ستتيح الفرصة للمسلمين للصلاة في المسجد الأقصى، ليس إلا تسويغا لحجج واهية، وما التطبيع في حقيقته إلا اعتراف بحق إسرائيل في الأرض وإهدار لحقوق الشعب الفلسطيني بل وحق الأمة العربية والإسلامية، وهو إقرار لا يحق للحكومة الإماراتية منحه لدولة الاحتلال.
إن التطبيع هو اختراق للأمة في ثقافتها وقيمها واقتصادها... وإعطاء العدو الغطاء الرسمي!!! فما هي مخاطر هذا التطبيع على الأمة العربية؟
- التطبيع السياسي والاقتصادي: هو إعادة صياغة العلاقة بين بلدين بحيث تصبح علاقات طبيعية، وتصرّ إسرائيل على أن التطبيع السياسي والاقتصادي بينها وبين الدول العربية هو شرط أساسي لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، ومن أشد الأخطار التي يمثلها هذا التطبيع الاقتصادي والسياسي، تهديده لمشروع التكامل الاقتصادي والسياسي في العالم العربي، ذلك أنه من المستحيل تصور أن يتم تكامل بين الدول العربية وإسرائيل موجودة! مع وجود تكامل اقتصادي وسياسي بين الدول العربية، إلا إن كان هذا التكامل الأخير في خدمة المصالح الاقتصادية والسياسية للدول الصناعية أو لإسرائيل نفسها.
- إن التطبيع يخفي عن الأنظار (وعن الضمير) الظروف الخاصة بإسرائيل ككيان استيطاني إحلالي، كما يخفي حقيقة أن استيطانية إسرائيل واعتمادها الكامل في رسم سياسة المنطقة على التنسيق مع أمريكا والغرب هو القانون الأساسي الذي يحكم ديناميتها وهذ يفسر لماذا زُرع هذا الكيان في وسط الوطن العربي؟! وهذا الاحتلال عبارة عن مؤسسات استيطانية استيعابية تقوم بوظائف غير وظائف الأحزاب السياسية في الدول الأخرى، مؤسسات يتم تمويلها عن طريق المنظمة الصهيونية العالمية، فهذا الدعم الإمبريالي الغير محدود لإسرائيل ودورها كدولة وظيفية لتفتيت الوطن العربي ومنع أي نهضة أو تقارب أو توحيد للجهود العربية.
- أما التطبع الثقافي: فلا يقتصر خطره على الثقافة بالمعنى الضيق، بل يشمل أيضاً الخطر الذي يواجه نمط الحياة والسلوك والقيم والانتماء وطبيعة الولاء...
والخطر الثقافي، بهذا المعنى الواسع لا يعني الخطر الذي يمثله غزو حضارة أو ثقافة متنوعة وإنما يعني تهديد ثقافة لثقافة أخرى بالاضمحلال أو بالزوال لمجرد أن الأولى يحملها شعب متفوق عسكرياً أو تكنولوجياً دون أن تكون ثقافته بالضرورة أكثر استحقاقاً للبقاء، والتاريخ يعرف هذين النوعين من الغزو الثقافي. إن هذا الخطر يشترط لتَحقُّقه ابتداءً وقبل كل شيء، هزيمة نفسية من الجانب العربي، وسيادة الاعتقاد بأن سبب التفوق العسكري الذي أحرزته إسرائيل عليهم هو تفوُّق قيمي وأخلاقي وحضاري وثقافي ومن ثم يظهر من يدعو إلى احتذاء إسرائيل في قيمهم الاجتماعية ونمط سلوكهم.
إن الخطر الثقافي الصهيوني قد أتيحت له قناة جديدة تتمثل في قبول دول عربية الانفتاح الاقتصادي والثقافي على إسرائيل، من شأنه أن يخلق عقبات تتراكم في وجه التكامل الثقافي العربي، كالانحسار التدريجي للتوجه العربي للتعليم، أو كالإهمال المتعمد لتعليم اللغة العربية والتاريخ العربي وتاريخ الشعوب والأقليات القومية الأخرى وتاريخ حضارات في المنطقة تحت شعار الانفتاح على العالم المتحضر ومجاراة متطلبات العصر.
- إن الاتفاقيات المنفردة فرطت عقد الأمة، وأضعفت شوكتها، وقوّت أعداءها، ومكنت سرطان الصهيونية الفتاك من الهجوم على عقيدتها والتأثير في فكرها، من خلال البرامج التي تعدها لتشويه صورة الإسلام وتحريفه والافتراء على العقيدة الإسلامية. فتأسست جامعة إسلامية في تل أبيب منذ عام 1956 لهذا الغرض، ولإشاعة الطائفية والعنصرية ولتمزيق اللحمة الاجتماعية في الوطن العربي، ليسهل لها تفتيت الوطن العربي إلى أجزاء (قومية أو دينية أو إثنية)، حتى تكون هي الدولة الأقوى في محيطها.
- التطبيع مع الكيان الصهيوني ذو أبعاد تتغلغل في وعي الإنسان. وكأنه يخاطب العقل العربي والنفسية العربية قائلا: "إن العجز قد أحاط بالعرب وهو كالقدر لا مفر منه، ولا مجال أمامهم سوى الاستسلام له وتوريثه لأبنائهم ليصبح مكونًا تربويًا لا تتمرد عليه الأجيال. إنه الترجمة العملية لترسيخ الهزيمة في النفس العربية بما يتضمنه ذلك من شروط القبول غير المتردد بالهزيمة". وبعبارة أخرى، "إنه استمراء للهزيمة بحيث لا تشعر النفس بارتياح في أجواء غير أجواء الهزائم والاندحارات، ولزرع الهزيمة النفسية سيكون تأثيره لأجيال قادمة لضمان بقاء الكيان المغتصب.
- التطبيع بالنسبة لإسرائيل لا يعني مجرد إقامة علاقات تجارية أو مفوضيات أو سفارات، وإنما من المفروض أن يشمل مراجعة لمفاهيم الصراع ولفهم التاريخ والأسس الدينية بما يتناسب مع وضعها الإقليمي... أي يجب أن يكون عملية قلب جذرية للنظرة العربية والإسلامية تجاه أحقية الشعب الفلسطيني والمقدسات الإسلامية، بحيث ينشأ عربي مسلم جديد بمفاهيم جديدة تنسف كل ما سبق بخلفياته وحيثياته جديدة، إن لم يكن التطبيع كذلك فإن جذور الصراع تبقى كامنة حتى يحين وقت انبثاقها. فإذا كان للصراع أن يدفن نهائيا فإنه لا بد من نسف الأصول والمنابت التي ساهمت في تشكيل الشخصية العربية الإسلامية.
إن الحوار السري الخليجي مستمر مع إسرائيل منذ عدة سنوات، وعلاقاتهم باتت واقعاً عملياً لا يمكن إنكاره، وفضيحة إقامة العلاقات مع العدو الصهيوني لم تعد تثير خجل أنظمة الخليج التي تسعى جاهدة لتخفيف الضغط الدولي عن إسرائيل، وتتكرر اللقاءات بين مسؤولين خليجيين وإسرائيليين في تل أبيب وأوروبا ونيويورك...
في الوقت الذي نرى فيه التطبيل للتطبيع مع الكيان الصهيوني، يقدم هذا الأخير على مشروع ضم الأراضي العربية والمقدسات الإسلامية والمسيحية. وهذه ظاهرة تاريخية فريدة من نوعها، لا يمكن أن نجد لها مثيلا في تاريخ الإنسانية. فهي بهذا تظفي بشكل سافر الشرعية على اغتصاب الكيان الصهيوني لأرض إسلامية مقدسة، فالكيان الصهيوني لا يريد السلام والتعايش، كيف لغاز ومحتل وعنصري أن يبحث عن سلام؟
كل ذلك يجري ولا صوت يسمع لجامعة الدول العربية! فهل صمت آذانها؟ أم عمي بصرها؟ أم نحن أمام عهد جديد للجامعة العربية لن يكون أحسن من قبل؟ بل سيكون أسوء مما كانت عليه، بفضل أمينها العام الجديد وما يمتلكه من علاقات جيدة مع الكيان الصهيوني، فضلاً عن أن أعضاءها يرون فيها ما هي إلا منتزه لبعض مسؤوليها، ومن ثم فإننا أمام جامعة تحتضر أمام قضايا الوطن العربي وتقف مشلولة الأيدي في مواجهة مخاطر الأمة العربية الحقيقة، وفى المقابل تُضخ فيها دماء جديدة تعمل من أجل التطبيع مع الكيان الصهيوني والعمل على تحويل ذلك العدو الأول للشعوب العربية إلى الصديق الحميم الذي ينبغي أن تكون العلاقات معه في أحسن حال، وهكذا فإننا سنكون أمام جامعة للتطبيع العربي وليس جامعة للدول العربية.
وأخيرًا على الحكومات العربية المختارة للتطبيع أن تدرك خطورة هذا المنزلق بإغفالها نتائج المدى البعيد لهذه السياسة، وخطر قصور هذه السياسة واحتمالية أثرها العكسي على كراسيهم من غضب الشعب العربي، لأن الشعب العربي لن يسكت على مثل هذه الجريمة، ولن يفرط بحقوق الشعب الفلسطيني والمقدسات الاسلامية. ولم يبق للحكومات العربية من أوراق المفاوضة مع العدو الصهيوني سوى رفض التطبيع، وبتطبيعهم يكونون قد أعلنوا عن تخليهم التام عن القضية الفلسطينية بشكل رسمي في الوقت الذي يؤمن فيه ثلاثة أرباع الشعوب العربية بأن القضية الفلسطينية هي قضيتهم المركزية وأن القدس ليست للبيع.
ستبقى فلسطين حرة عربية رغم أنف العملاء