رئيس الدولة الفرنسية العلمانية يسمح لنفسه بالخوض في موضوع الإسلام تصنيفا وتجريما ووصاية عليه؟
أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي أمس الأول عن الإسلام ردود فعل مختلفة لدى المسلمين في العالم الإسلامي، وفي الدول الغربية التي توجد فيها جاليات مسلمة . ومدار حديث الرئيس الفرنسي باختصار شديد هو أن بلاده تعرف ما سماه غزوا إسلاميا أصوليا راديكاليا متطرفا يهدد الجمهورية الفرنسية في صميم علمانيتها ، وعليه اقترح أو قرر الحيلولة دون ذلك بطرح مشروع أو مشاريع ستناقش في البرلمان الفرنسي ، ويسري مفعولها في حال اعتمادها قبل انتخابات 2022 .
ودون الخوض في تفاصيل كلمته عن الإسلام في ندوته الصحفية ، نتساءل ما الذي جعل الرئيس الفرنسي يحشر أنفه في موضوع الإسلام ، ويسمح لنفسه بوصفه وتصنيفه والحكم عليه وتجريمه بل وعزمه الوصاية عليه في فرنسا إلى حد اتخاذ قرار تكوين وإعداد الأئمة على الطريقة الفرنسية ؟
إن ما سماه الرئيس الفرنسي إسلاما راديكاليا أو أصوليا الذي يهدد العلمانية الفرنسية لا علاقة له ولا صلة له بالإسلام كدين عالمي جعله الله عز وجل للناس أجمعين ولا ينسحب عليه وصف الرئيس الفرنسي أو بما يصفه به غيره من صفات ونعوت قدحية وتجريمية . ولا يحتاج الإسلام إلى تصنيف المصنفين والقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة متداولان في العالمين بلسان عربي مبين لا يعرفه ولا يتحدث به الرئيس الفرنسي ولا غيره ممن تسول لهم أنفسهم الخوض فيما يجهلونه من موضوع الإسلام إلى درجة التفكير في الوصاية عليه .
وأول ما تجدر الإشارة إليه أن الإسلام كتابا وسنة لا يستهدف ملة من الملل مهما كان نوعها لأن شعاره : (( لا إكراه في الدين )) و (( لكم دينكم ولي دين )) و بهذا الأمر في هذا الموضوع محسوم. وما وقع ويقع في فرنسا العلمانية وجاراتها الغربية هو أن علمانيتها هي المسؤولة أولا وأخيرا عما ظهر فيها مما تسميه أصولية وراديكالية وسلفية بالمعنى القدحي للكلمة، لأن معنى الأصول والسلف في الإسلام لا علاقة لهما بذلك المعنى القدحي . ومسؤولية العلمانية تكمن في كونها لا تحمل شعار الإسلام في نبذه الإكراه في الدين ، والاعتراف بحرية الأفراد في اختيار دينهم بل تجعل نفسها مهيمنة بينما غيرها خاضع لها وملزم بها ، ومع ذلك تدعي أنها تحترم حرية الاعتقاد والتدين قولا ، و عمليا في واقع الحال تصادرها مصادرة صارخة ، ويمكن التمثيل على ذلك بالتضييق على لباس المرأة المسلمة في البر وحتى في البحر ،ذلك أنها بحكم لباسها الذي هو جزء من دينها وعقيدتها منصوص على كيفيته في القرآن الكريم ، وفي السنة النبيوية المشرفة ، والذي ليست له دلالة اللباس في العلمانية أو غيرها ،حرمت من حقوقها بسببه في الدراسة وفي العمل وحتى في السباحة حيث تسبح غيرها عاريات وشبه عاريات ، ولا يسمح لها بلباس استحمامها الساتر بل يعتبر لباسها سواء العادي أو لباس الاستحمام مهددا للقيم العلمانية على حد زعمها. وتقحم العلمانية الفرنسية أنفها في شأن هذا اللباس مدعية أنها تريد تحرير المرأة المسلمة مما تعتبره إكراها أكرهت عليه . وهذا مجرد مثال على دور العلمانية في استفزاز المشاعر الدينية للمسلمين إلى جانب أمثلة أخرى لا نريد الخوض فيها ونكتفي منها بمثال آخر هو حرمان الجاليات المسلمة من ذبح أضاحيها وهو شان ديني على الطريقة الإسلامية مع فرض الطريقة العلمانية عليها بذريعة الدفاع عن حق الحيوان مقابل مصادرة حق الإنسان المسلم .
إن التضييق على حرية ممارسة الشعائر الإسلامية عبادة ولباسا وأكلا وشربا ... إلى غير ذلك هو الذي ولّد الاحتقان داخل المجتمع الفرنسي وباقي المجتمعات الغربية لدى الجاليات المسلمة ، وصارت لهذا الاحتقان ردود أفعال اتسمت بالعنف خصوصا عندما تستهدف رموز الإسلام كسب وشتم النبي صلى الله عليه وسلم ،والعبث بشخصه الكريم كاريكاتوريا ، أو تدنيس المصحف الشريف أو غير ذلك من الاستفزازات العلمانية المتكررة.
والذي غاب عن ذهن الرئيس الفرنسي أو بالأحرى حاول تغييبه، هو أن ما سماه أصولية وراديكالية لم تفد على فرنسا وجاراتها الغربيات من البلاد الإسلامية بل فرخّت فيها، ومنها تم تصديرها إلى البلاد العربية الإسلامية ذلك ، أن الجالية المغربية على سبيل المثال لا الحصر رحلت أول مرة إلى أقطار أوروبا بما فيها فرنسا بإسلام نشأت عليه في وطنها الأم إسلاما سنيا بعقيدة أشعرية ،ومذهب مالكي، وطريقة صوفية جندية ،ولا يمكن لأحد الطعن في هذه الهوية الإسلامية أو الافتراء عليها بأنها تفضي إلى تطرف أو راديكالية أو عنف وإرهاب ، وما كادت هذه الجالية تستقر في الدول الغربية بعض الوقت حتى عادت إلى وطنها بإسلام غير الذي نشأت عليه ،فصار منها شيعة، ووهابية ،وسلفية ...، وقد تم التشويش على ما نشأت عليه في بلاد المهجر ،وألقي في روعها أن دينها الذي نشأت عنه منحرف، وأن الدين الصحيح هو ما تلقته في الأقطار الغربية على يد مستأجرين كانت مخابرات تلك الأقطار على علم بهم، لكنها ألقت الحبل على الغارب ، وغضت الطرف نكاية في الإسلام لتتهمه بعد ذلك بالتطرف والعنف والإرهاب ،وثقافة الكراهية ، وما إلى ذلك من تهم باطلة وبهتان .
إن بلدنا هو الأولى والأجدر بأن يحاسب فرنسا وجاراتها الغربية على ما فعلته بإسلام أبنائه الذي رحلوا منه أسوياء عقديا وعادوا منها بعقائد منحرفة أصابت عدواها الكثير من أبنائه في الداخل تماما كما جاءت عدوى جائحة كورونا منها ، ونشأ صراع عقدي بين أبناء هذا الوطن الواحد حتى انتهى الأمر باحتراف بعضهم الإرهاب داخله وقد انتقل إليه من بلاد الغرب تحديدا ،وبتخطيط من أنظمتها ومخابراتها كما أكدت ذلك حقائق لا يمكن أن تطمس .
ولقد نسي أو تناسى الرئيس الفرنسي أن بلده العلماني غزا المغرب المسلم ظلما وعدوان ، والمغاربة على دينهم الصحيح ، فنشر فيهم من المفاسد ما لم يكن فيهم ،وحارب الإسلام ولغة كتابه، وضيق عليهما الخناق ، وفسح المجال للغته وثقافته وجعلها هي العليا واللغة العربية والثقافة الإسلامية هي السفلى ، ولا زالت آثار الاستلاب الثقافي والفكري تفعل فعلها في أبناء هذا الوطن، وقد فرخ شرذمة من العلمانيين وهم عبارة عن طابور خامس يخدم العلمانية وينشر فسادها ، وقد استشرى وباؤه ، وصرنا نسمع منه ونقرأ له ما لم نكن نسمع من قبل ، وقد ذهب بعيدا في الإساءة إلى الإسلام والتجاسر عليه بدعم من مؤسسات وجمعيات فرنكوفونية تمول من فرنسا العلمانية ، ولا أحد يسأل عن مصدر تمويلها كما سأل الرئيس الفرنسي عمن يموّل الجاليات المسلمة في بلاده ، ولا أحد أنكر ما يفعله الطابور الخامس العلماني في بلادنا من تخريب للهوية الإسلامية والعربية وتهديد للدولة المغربية المسلمة بحكم تاريخها الأطول عمرا من عمر الجمهورية الفرنسية العلمانية كما أنكر الرئيس الفرنسي تهديد ما سماه بالإسلام الراديكالي والأصولي لجمهوريته العلمانية .
إن ما أقدم عليه الرئيس الفرنسي عبارة عن حلقة من حلقات سلسلة المناورات المكشوفة والمستهدفة للإسلام في بلاده وليس في بلاد الغرب ، وعبارة عن ذر للرماد في العيون لصرفها عن تحركاته المريبة في البلاد العربية والإسلامية كما هو الشأن في بلاد مالي حيث زرع مرتزقة يحاربون باسم الإسلام لتشويهه واتخاذهم ذريعة للتدخل فيها طمعا في خيراتها ، وكما هو الشأن في لبنان طمعا في استثمارات ضخمة فيه وقد انهار كليا ، ومجاورة للكيان الصهيوني تثبيتا لصفقة القرن المشبوهة ، وكما هو الشأن في التدخل في ليبيا لدعم مجرم حرب طمعا في خيراتها أيضا ، و التدخل في شرق المتوسط مع أنه هو في غربه ضد تركيا العلمانية والعضوة معه في حلفه الأطلسي لأن رئيسها مسلم وتحركاته تنافسه في مشاريعه هناك ، وكما هو الشأن في تدخله الأخير في منطقة البلقان ووقوفه إلى جانب أرمينيا لمواجهة أردوغان الذي يقف إلى جانب أذربجان المسلمة .
يبدو أن الجمهوية الفرنسية العلمانية قد بدأت تفكر في صيغة جديدة للهيمنة على أقطار خصوصا المسلمة منها من أجل الاستثمارات التي تضخ لها الأموال الطائلة لصيانة رفاهيتها التي كانت دائما تمول من خارج أراضيها ، والتي باتت مهددة بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية وليس كما زعم الرئيس الفرنسي أنها مهددة بالإسلام الراديكالي ، وهو ما جعله يقدم على ما سيمرر عبر البرلمان الفرنسي للتصدي له حفاظا على الجمهورية بل التصدي لكل محاولة تفضح أطماعه الاستثمارية .
ويبدو أن الأمر هو عود إلى فصل من فصول الحروب الصليبية بنسخة جديدة فرضها الظرف العالمي الحالي
وسوم: العدد 897