اللاسامية والإسلاموفوبيا: الحاجة لإعادة صياغة المفهومين معاً
لم يعد ممكناً في زماننا التفكير في راهن كل من «معاداة السامية» و«رُهاب الإسلام» بمعزل عن بعضهما البعض.
لا يُستفادُ من هذا أن التفكيرَ محصورٌ في تعيين أيّ النزعتين أشد خطورة من الأخرى. ولا يستقيم التفكير المقارن والمزدوج هنا بإنكار نزعة والتصديق على الأخرى، ولا بالمماثلة بين النزعتين كما لو كانتا تشبهان بعضهما بعضاً من كل الجوانب وتكرر الواحدة منهما الأخرى، أو تحلّ الواحدة بدل الأخرى.
اللاسامية أولاً. كثيراً ما يثار اللغط عربياً حول هذا التعبير، وتجري المسارعة إلى ردّه بدعوى «أننا ساميّون». وفي هذا إغفال لواقعة أنه قد وُجِدَ بالفعل، في التاريخ الأوروبي، أناس فاعلون يقدّمون أنفسهم كأعداء للسامية. كان هذا قبل أن تعمد الأجيال التالية من معادي السامية الى تورية هويتها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن قبل ذلك، كان اللاساميّون يقدّمون أنفسهم كذلك على طول الخط. فالقصد من شيوع هذه التسمية وتبنيهم لها كهوية لهم، الإشارة الى ان اختلاف اليهود عن المجتمعات الأوروبية ليس اختلافا دينيا فقط بل هو اختلاف عرقي بالدرجة الأولى، وأن يهود أوروبا يتحدرون عرقياً من الشرق..
وبما أنه في الفترة نفسها، القرن التاسع عشر، ونتيجة للمقارنة بين الأساطير القديمة والألسن، فُهِمَ أن السنسكريتية والفارسية واليونانية واللاتينية بنات عائلة واحدة، وجرى التعليل من ثم ان الاشتراك في المخيلة والانتماء الى بوتقة لغوية واحدة متعددة الفروع يعني الانتساب ليس فقط إلى لغة قديمة مشتركة، بل الى دم أصيل لم يزل يسري في العروق بنسب متفاوتة بين فروعه، فقد انتشرت خرافة «العرق الآري» الصانع للحضارات شرقاً وغرباً. فاكتشف «الغربي» بالتالي أن لديه أولاد عمومة في الهند أو في إيران، بل أقامت بريطانيا نظام المعادلة بين النبالتين الإنكليزية والهندية على هذا الأساس، ثم أخذ رواد الحركة الوطنية الهندية أنفسهم يطالبون بريطانيا بالتعامل معهم كأبناء عرق واحد. بالضدّ من هذا كان تعيير اليهود بأنهم «ساميّون». للقول في آن واحد أنهم غرباء عن أوروبا وليسوا حتى من أقرباء الأوروبيين في آسيا (آريّو الشرق). لم تكن حاجة لتعيير العرب بذلك، بنفس القدر، ما داموا أصبحوا خارج أوروبا منذ ضياع صقلية والأندلس. أما اليهود، فحينما كان يقال لهم أنتم ساميّون ومكانكم ليس بيننا، فكان يمكن أن يُترجَم ذلك: أنتم كالعرب..
قبل اللاسامية الحديثة، القائمة على اعتبار المشكلة مع اليهود عرقية قبل أن تكون دينية (مع عدم إمكان الفصل تماماً بين الاعتبارين) كان هناك ضرب آخر من معاداة اليهود كيهود في العصر الوسيط ومطالع الأزمنة الحديثة. معاداتهم ليس فقط كمتهمين بـ«قتل الرب» في المأثور المسيحي، وبالبقاء على شريعة نسخها الإنجيل، بل معاداتهم أيضاً كونهم يمثلون «مسلمي الداخل» من ارتكاب الصليبيين الفظائع ضد اليهود اولا وهم في طريقهم نحو الشرق، الى اتهام اليهود بمؤامرة تسميم الآبار، بايعاز من مسلمي الأندلس، لكن هذه النزعة استفحلت أكثر فأكثر مع تجدد الخطر الإسلامي على أوروبا المسيحية من البوابة العثمانية، واستقبال الأستانة لاجئي الأندلس من مسلمين موريسكيين ويهود سفارديم، ناهيك عن تبني السلطنة، من بعد سيطرتها على معظم حوض الدانوب في أعقاب فتح بلغراد 1521 ومن ثم فتح المجر بعد معركة موهاج 1526، لشعار استعادة الأندلس.
لا يلغي هذا، بل يتقاطع، مع نمو المعاداة الفلاحية لليهود في الشرق الأوروبي، وبالذات في المتحد البولوني الليتواني الذي كان يمتد من بحر البلطيق حتى معظم أوكرانيا، وشكّل اليهود فيه، الى حد كبير، وسيطاً اجتماعياً بين النبالة الكاثوليكية وبين الفلاحين الأرثوذكس، بما ارتد سلباً عليهم عند تراجع سيطرة هذه النبالة. لكن في هذه الحالة أيضاً، كان التنديد باليهود وارتكاب المجازر ضدهم، كما في حركة التمرد القوزاقية التي قادها بوهدان خميلنتسكي للتحرر من المتحد البولوني الليتواني في القرن السابع عشر، بدعوى أنهم عملاء لتتار القرم المسلمين الداخلين رسمياً في نطاق الدولة العثمانية..
لم تتراجع هذه النظرة الى اليهود كـ»مسلمي الداخل» في الكريستندوم (دار المسيحية) الأوروبي الا بتراجع الخطر الإسلامي، العثماني نفسه. وهذا الأمر سمح تدريجياً بالنقلة نحو اللاسامية بمعناها الحديث: اعتبار أن هناك حاجزا عرقيا يحول دون اندماج اليهود بشكل صحيح في المجتمعات الأوروبية، ويحوّل هذا الاندماج الى تحايل على هذه المجتمعات، لأن اليهودي «المندمج» يخفي تحت ستار اندماجه، حقيقته المنتمية الى «هناك» الى ساميي الشرق. كانت النقلة اذا من النظرة الى اليهودي كمسلم الداخل في الكريستندوم الى النظرة اليه كعربي الشمال في أوروبا الماضية على طريق الحداثة.
انقلابان جعلا هذه النظرة غير مرئية في القرن العشرين.
فمن جهة، حدث الانتقال من اللاسامية الحديثة في طورها الأوّل، القائمة على التشكيك في نيّة اليهود الاندماج كمواطنين وفي الإخلاص للدولة الأمة انطلاقاً من دوافع عرقية، إلى طورها الأكثر جذرية مع النازية، والقائمة على اعتبار أن اليهود بسيطرتهم على مركز الثروة الأممية (مقولة «اليهو – ـ بلشفية») وتحكمهم بمركز الثروة (رأس المال المالي) إنما يشكلون خطراً وجودياً على ألمانيا والعرق الآري الشماليّ، ليس لأنهم عرق قائم بذاته، بل لأنهم لا – عرق طفيلي، يسمح بتكتيل الأعراق المعادية، وبتحريك الهمجية الأسيوية ضد أوروبا.
ومن جهة ثانية، تقاطع كل من الحلين الإبادي النازي والكولونيالي الغربي للمسألة اليهودية: ابادة ثلثي يهود أوروبا في مقابل إقامة دولة لليهود في «عقر دار» العرب والمسلمين، أي تحويل «مسلم الداخل» في أوروبا سابقاً إلى «أوروبي» خارج أوروبا.
وهنا، أسوأ ما يحصل هو الشكوى من الاهتمام الزائد بالمحرقة واللاسامية، وكيف أنه تجرّم اللاسامية ولا تجرّم الإسلاموفوبيا. مصلحة المتضرّرين من المشروع الكولونيالي المقام على أرض فلسطين التاريخية تقتضي العكس تماماً: التأسيس على وعي المحرقة، وعلى وعي هذه المفارقة المهولة، أي اجتماع كل من الحلين المتوازيين لـ«المسألة اليهودية» حلّها بإبادة معظم يهود أوروبا، وحلّها بإقامة دولة استيطانية كي «يتأورب» داخلها اليهود الذين رُفِضَ تأوربهم في أوروبا نفسها، مرة لأنهم «مسلمي الداخل» ومرة لأنهم «ساميّون» أي «عرب».
التأسيس على وعي المحرقة يكون بنظرة أوسع من النظرة الأوروبية المحض إليها. نظرة تبدأ من كون اليهود عوملوا لقرون عديدة في أوروبا على أنهم «شبه مسلمين» دينياً، ثم «شبه عرب» عرقياً، قبل أن تحدث المحرقة وقبل أن تقوم الدولة الإسرائيلية.
يعني ذلك أيضاً دحض سردية خبيثة. نجدها مثلاً عند مؤرخ الأفكار الفرنسي بيار اندريه تاغييف، الذي يعتبر أنّه انتقلنا من طور كانت فيه اللاسامية غربية، تأخذ على اليهود أنهم آسيويون داخل أوروبا، إلى لاسامية إسلامية تأخذ على اليهود أنّهم رأس حربة الإمبريالية والرأسمالية الغربية. أكثر من هذا، في منطق اندريه تاغييف ما عاد ممكن للاسامية إلا أن تكون إسلاميّة، بما أنّ أوروبا والغرب حلّت مشكلتها مع «المسألة اليهودية. وهذا الحل رباعي بالنتيجة: المحرقة، وإقامة إسرائيل، ثم تطهير الذاكرة من تروما الإبادة، ثم اعتبار أن اللاسامية لم تعد أوروبية بل صارت إسلاميّة، وتحوّل الإنكار الإسلامي للمحرقة إلى «المشكلة المركزية» بدلاً من التداعيات المستمرّة للمحرقة على كل من اليهود والمسلمين سواء بسواء. أيضاً يعتبر اندريه تاغييف أنّ الإسلاموفوبيا غير موجودة، وإن هي إلا ذر للرماد في العيون، قبل أن يخبرنا في كتابه «الإسلاموية ونحن. التفكير في العدو غير المتوقّع» (2017) أن الغرب لا يواجه عدميين بل يواجه بربرية إسلامية بكل ما للبربرية من معنى، ثم يلتفت لدليل نصيّ على ما يقول، فيتجه صوب القرآن، وجديده هنا ليس أن القرآن يحرّض على العنف مباشرة، بل أنّه كتاب مبهم، والبرابرة سموا كذلك عند اليونان لأن كلامهم مبهم، وبالتالي فإنّ هذا الإبهام هو الذي يجعل هذا النص بياناً للبرابرة في حربهم على الحضارة. فإن لم تكن هذه هي الإسلاموفوبيا في أكمل أشكالها النظرية، فما تكون الإسلاموفوبيا؟
وسوم: العدد 901