سياسة الدفاع المتقدم التركية.. معادلة التكاليف والفرص
تواجه تركيا في مرحلة ما بعد الثورات العربية موقفا معقدا للغاية نتيجة الفراغ الناجم عن تحول بعض دول المنطقة إلى دول فاشلة، واحتدام التنافس الإقليمي جراء تراجع دور واشنطن التقليدي في الشرق الأوسط.
وقد حتّم هذا الأمر على أنقرة النظر في الخيارات المتاحة، فإما التراجع والانكفاء على ذاتها لتأمين الداخل، وإما الاندفاع خارج حدودها لملء الفراغ الإقليمي وتحصين نفسها وحلفائها من خلال إقامة حزام دفاعي متقدم في عمق المنطقة.
أدت محاولات بعض القوى الإقليمية والدولية لإعادة تشكيل الإقليم وفق أسس جديدة تقوم على عزل أنقرة، وتقويض مصالحها، وتهديد أمنها القومي، إلى تسريع تبني الاتجاه الثاني، ولا سيما بعد فشل الانقلاب العسكري في الإطاحة بالحكومة التركية في 15 يوليو/تموز من عام 2016.
وجدت أنقرة حينها أن مخزونها من القوة الناعمة لم يعد عنصرا حاسما في حماية مصالحها وتحصينها من التداعيات السلبية، ولا سيما مع تحول صراع الإرادات في المنطقة إلى صراع مسلح، وصعود الإرهاب، وتسارع التدخل الدولي.
ونظرا لامتلاك تركيا ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، وهو واحد من أكثر جيوش المنطقة تفوقا من الناحية العسكرية، فقد وجدت أن توظيف قوتها الكامنة في الميدان هو الخيار الوحيد المتاح أمامها.
اعتمدت تركيا سياسة الدفاع المتقدم، الأمر الذي حتّم عليها الانغماس العسكري في عدد كبير من الجبهات من بينها سوريا والعراق، ثم الخليج العربي في عام 2017، وشرق البحر المتوسط وليبيا في عام 2019، كرد على الجهود المبذولة لعزلها أو استثنائها.
الاتجاهات المعادية لتركيا
ترافق ذلك مع تشكل 3 اتجاهات إقليمية ودولية معادية لتركيا. الاتجاه الأول هو تكتل القوى الدولية والتي غالبا ما كانت تعتمد على سياسة الاحتواء والموازنة بين أقطاب الإقليم لتسهيل التحكم في اتجاهات المنطقة وعدم خروج أي من القوى الإقليمية عن المسار المقرر لها سلفا.
والاتجاه الثاني هو تكتل الأنظمة الإقليمية التي اعتبرت أن تبني أنقرة خط الثورات العربية هو تهديد لاستمراريتها في الحكم. وأخيرا تراجع أداء الاقتصاد التركي الذي يعتمد على الإنتاج للتصدير، وعلى الاستثمار في البنية التحتية، وذلك تحت وطأة الضغوط الخارجية والفوضى الإقليمية.
وفي حين يربط البعض الموقف الدولي والإقليمي المعادي لتركيا بأسباب تتعلق بطبيعة قرارات السياسة الخارجية التركية التي تسعى لأن تكون أكثر استقلالية في توجهاتها الإستراتيجية، يؤكد الواقع أن المشكلة أعمق من ذلك بكثير. فالولايات المتحدة الأميركية سهّلت في عهد الرئيس باراك أوباما سيطرة إيران وروسيا على سوريا، وحاولت كذلك خلق كيان مستقل لحزب العمال الكردستاني على حدود تركيا، كما ساعدت اللوبيات القوية لإسرائيل واليونان وأرمينيا والإمارات بواشنطن في تعميق الخلاف بين الطرفين.
أما الاتحاد الأوروبي، فقد استحضر الكثير من دوله خلفيات تاريخية وثقافية وفي بعض الأحيان دينية في النزاع مع تركيا، ولعل ما عبر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الآونة الأخيرة هو بمثابة قمة جبل الجليد. أما الأنظمة العربية فقد حاولت اللعب هي الأخرى على وتر التاريخ حينا وعلى وتر القومية أحيانا.
تركيا رقم صعب
بالرغم من ذلك، نجحت تركيا في فرض نفسها كرقم صعب في المعادلة، إذ منعت تحويل شمال سوريا والعراق إلى منصة لتهديد أمنها القومي، كما أفشلت جهود التحالفات الصاعدة شرق المتوسط لعزلها وحرمانها من حقوقها المشروعة، وأوقفت الانقلاب العسكري في ليبيا. ونجحت أنقرة كذلك في أن تقدم نفسها لأصدقائها على أنها حليف موثوق، وملتزم بدعم حلفائه، ويمكن الاعتماد عليه في الشدائد، وقد ظهر ذلك بشكل جلي في الحالات المتعلقة بقطر وليبيا وأذربيجان.
حتى الآن، استطاعت تركيا فرض نفسها على الخصوم والمنافسين ومنعت تهميشها وعزلها، إلا أن ذلك رتب الكثير من التكاليف والأعباء عليها. سياسة الدفاع المتقدم تتطلب إنفاقا متزايدا على الالتزامات العسكرية المتمددة. كما أن المواقف الدبلوماسية المتحدية لأميركا والغرب عموما أو لروسيا وإيران أو للتحالفات العربية المعادية لها في المنطقة ترتب تكاليف سياسية واقتصادية على أنقرة، ومن غير الممكن أو المتوقع أن تستطيع تركيا الوقوف في وجه كل هذه الأطراف في آن معا إلى ما لا نهاية.
بالنسبة إلى أنقرة، فإن الانخراط المتزايد إقليميا لم يكن خيارا بقدر ما كان واقعا تم فرضه عليها. وبالرغم من محاولات الخصوم تصوير السياسة الخارجية التركية على أنها سياسة أيديولوجية، أو غير واقعية، أو عدوانية، من خلال الحديث عن عسكرة السياسة الخارجية، أو الأجندات والأطماع التوسعية، فإن تركيا ليست دولة انتحارية وإنما تقوم بمغامرة محسوبة تستند إلى تصور مفاده أنه مهما كنت مقربا من "الآخر" فهو لن يحترمك ويعطيك وزنا أو يقيم لك اعتبارا إلا إذا كنت قويا على الأرض.
توظيف القوة العسكرية
وتقوم حسابات أنقرة أيضا في هذا المضمار على أنه لا مفر من توظيف القوة العسكرية بالسياسة الخارجية في هذه الظروف الإقليمية، وأن الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية ليست في وارد الصدام المباشر مع تركيا الآن، وأن هذه المرحلة هي بمثابة اختبار يحمل فرصا كما يحمل تحديات وتكاليف.
أما البديل، أي الانكفاء نحو الداخل، فلن يحمي تركيا، ولن يمنع الآخرين من ممارسة السياسات العدوانية نفسها تجاهها، كما أنه لن يستطيع إيقاف التحولات الإقليمية التي يراد لها أن تتشكل بالضد من مصالح أنقرة وأمنها القومي.
ومن المفارقات فيما يتعلق بثنائية التحديات والفرص، أن تعاظم الضغط الاقتصادي وتسارع تراجع سعر صرف العملة في البلاد، يترافق بشكل عكسي في الفترة الأخيرة مع صعود قطاع الصناعات الدفاعية والعسكرية التركية، كما أن الانخراط العسكري المتزايد خارجيا يضمن مصالح أنقرة الاقتصادية التي يراد التعدي عليها.
في عام 2018، احتلت تركيا المرتبة الـ 14 بين أكبر مصدري العتاد العسكري في العالم. وفي العام نفسه، شهد قطاع الصناعات الدفاعية أقوى نمو للصادرات بين جميع الصناعات التركية، حيث تجاوزت صادراته عتبة ملياري دولار لأول مرة، ثم 3.1 مليارات دولار في عام 2019.
فضلا عن ذلك، سمح الانخراط العسكري التركي خارجيا لأنقرة بتوظيف تقنيات محلية الصنع نجحت في أن تلقى شهرة عالمية وأن تغير موازين القوى على الأرض ومفاهيم الحروب الجديدة كالطائرة الهجومية المسيّرة على سبيل المثال والتي لعبت ولا تزال تلعب دورا حاسما في كل من سوريا والعراق وليبيا وأذربيجان.
ازدياد أدوار تركيا الخارجية من الناحية العسكرية يعكس مدى جديتها في الدفاع عن موقفها وموقف حلفائها. وبهذا المعنى، فإن الانخراط التركي يرفع التكاليف المتعلقة بأدوار اللاعبين الآخرين أيضا، وذلك بهدف دفعهم للسعي إلى عقد تفاهمات تأخذ بعين الاعتبار مصالح أنقرة تجنبا للصدام العسكري بها.
ويرى الجانب التركي أنه بالرغم من التكاليف السياسية والاقتصادية المترتبة على دوره، فإنه حالما يتم تأمين الاستقرار للبيئة الإقليمية، فإن عائدات الأدوار العسكرية والمصالح الاقتصادية المتبادلة مع الحلفاء ستبدأ بالتدفق، لكن التحدي الأساسي في مثل هذه المقاربة هو ما إذا كان باستطاعة أنقرة والاقتصاد التركي الصمود حتى حينه، ولا سيما في ظل وجود الكثير من المتغيرات الداخلية والخارجية المتحركة في آن واحد.
وسوم: العدد 902