قياس مؤشر التدين لدى الشباب المغربي على غرار قياس مؤشرات مادية مغالطة من ورائها أهداف غير معلنة
يبدو أن بعض وسائل الإعلام المأجورة في بلادنا تحاول على حد قول المثل العامي المغربي " اضرب الحديد ساخنا " . ولا شك أن هذا النوع من الإعلام يحاول في هذا الظرف بالذات أن يفي بما في ذمته للجهات التي تستأجره كي يسوّق لما ينال من الدين والتدين من أجل أن تخلو الأجواء لما يقدم أو يقترح كبديل عنهما من توجهات داعية إلى الانحلال أخلاقي خصوصا في أوساط الشباب .
ومما نشر مؤخرا على صفحات بعض تلك الوسائل الرقمية تحديدا مقال يدور الحديث فيه عما سمي " تراجع مظاهر التدين عن الشباب المغربي " وقد طرق هذا الموضوع للمرة الثانية من طرف نفس الموقع الإعلامي الذي انطلق في معالجته من تقرير لما يسمى "بالمركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة " والذي جاء فيه أن المغرب في سنتي 2018 و2019 قد عرف تراجعا في التدين وعبارة هذا التقرير جاء فيها ما يلي : " بداية تنكّب الشباب المغربي عن الدين واستدارة ظهره للتدين وإقباله على الحياة " .
ويفهم من هذه العبارة أن إقبال الشباب على الدين والتدين بالنسبة لأصحاب هذا التقرير عبارة عن موت ، بينما الحياة توجد في الإقبال عن غيره ، وما هذا الغير سوى بدائل لادينية مستهترة بالقيم والأخلاق ، وداعية إلى التهتك والخلاعة والمجون .
والغريب في الأمر هذا المركز أخضع الدين والتدين لقياس تقاس به عادة المؤشرات المادية في عالم الاقتصاد والمال ...وغير ذلك ارتفاعا أوانخفاضا ، مع ما بين الأمرين من بعد واختلاف وغياب الصلة الواصلة بينهما .ومعلوم أن الدين والتدين عصيّان عن كل قياس كمي أو كيفي كما الحال في غيرهما مما يخضع للقياس ، ولا يمكن رصدهما من خلال سلوكات معينة . فهل الإقبال على الصلوات في المساجد على سبيل المثال لا الحصر يمكن أن يعتبر مقياسا للدين أو التدين ؟ ألا تؤدي الكثرة الكاثرة من الناس شبابا وشيبا صلواتهم في غير المساجد بحكم ظروفهم ؟ وهل تستوعب مساجد البلاد كل المصلين وأعدادهم بالملايين وإن لم يحصل ذلك اعتبر فتورا في التدين ؟ أليس من العبث أن ينطلق من قضية الإقبال على المساجد للحكم على حضور أو غياب الدين والتدين في البلاد أو الاقبال أو الإعراض عنهما ؟
ولا شك أن أصحاب هذه الدراسة العابثة قد عبروا عن ضيق آفاقهم في فهمهم ظاهرة التدين إذ راموا قياسها كما أو كيفا مع أنها عصية على القياس ، وقد عبروا بذاك عن اختزال التدين كما شاءوا، وجعلوا الدين موتا مقابلا للحياة أو ضدا لها كما تعكس ذلك عبارة " تنكب الشباب عن الدين واستدارة الظهر له مقابل الإقبال على الحياة ".ومتى كان الدين منفصلا عن الحياة إلا عند من لا دين لهم ؟ وهو ما يراد من التسويق لمثل هذه الدراسة التي تهدف إلى إيهام الرأي العام أن بلادنا تنتقل من الدين إلى اللادين ، وأن اللادين حياة بينما الدين موت.
وعند التأمل في تقرير هذا المركز ، وانطلاقا من بعض ما يمكن أن نسميه فلتات قلم من قبيل ورود لفظة "صحوة " فيه ، أو "عبارة إسلام سياسي "، أو عبارة "ربيع عربي" ... ندرك خلفية من يقفون وراءه وهم أعداء الصحوة الإسلامية ، والمتوجسون من عودة الربيع العربي من جديد والذين يعتبرونه عودة الإسلام السياسي العصي على الانصياع ، علما بأن عبارة الإسلام السياسي أصبحت تطلق تحديدا على كل جهة تراهن على الإسلام كحل للنهوض بشؤون المسلمين . ومن أجل تشويه هذه العبارة والتنفير منها ألصقت بها تهمة الإرهاب والعنف .
ألم تفرز ثورات الربيع العربي رهان الشعوب العربية على الإسلام كحل للخلاص من الفساد السياسي وما ترتب عنه من كل أنواع الفساد الأخرى، و هي ثورات كان على رأسها أو في طليعتها شباب قد قادوها ؟ فجاءت على إثر ذلك ردة فعل من الفساد السياسي الذي أجهز على تلك الثورات ووأدها في مهدها كما حصل في مصر على سبيل المثال حيث وقع انقلاب عسكري دموي نسف تجربة ديمقراطية فريدة لم تشهدها مصر من قبل ، وقد كان هذا الانقلاب من تدبير وتخطيط وتمويل تيار الفساد السياسي في الوطن العربي بتنسيق ومباركة الغرب العلماني، وهو تيار نوجس من خطر ثورات الربيع العربي على مصيره ،فبادر بإجهاضها ، وصار يشير بأصابع الاتهام إلى ما أصبح يسمى عنده خطر الإسلام السياسي ، مع أن هذا الإسلام السياسي ما هو في حقيقة أمره سوى خيار الرهان على الإسلام كحل لمواجهة الفساد السياسي . ولقد انقلبت الآية، فصار الفساد السياسي أمنا وسلاما في حين صارالإسلام السياسي خطرا وإرهابا وعنفا .
وإن التسويق لأكذوبة انصراف الشباب عن الدين والتدين والإقبال على الحياة التي يقصد بها العربدة والانحلال والتهتك عبارة عن مؤامرة مكشوفة ظن مسوقوها أن الفرصة مواتية لاستئصال فكرة رهان هذا الشباب على الإسلام كحل من أجل التخلص من الفساد السياسي الضارب أطنابه في الوطن العربي عموما .
وإذا جاز أو صح القول بإعراض الشباب عن الدين والتدين ، وهو غير صحيح البتة ، فإنه إعراض عن نموذج التدين المغلوط والمغشوش الذي يستخدم الدين عوض أن يخدمه ، والذي يراد له أن يكون مسكنا أو مخدرا ، وبديلا عن التدين الصحيح . إن الشباب اليوم في الوطن العربي على درجة عالية من الوعي، وهو بفطنته يميز بين زائف التدين و صحيحه ، ولهذا إذا ما ولّى ظهره للتدين الزائف، فهذا لا يعني أنه أعرض عن الإسلام . ومتى ما آنس هذا الشباب صدق وصحة التدين، فإنه سيقبل عليه دون تردد . وما دام التدين المنحرف سائدا فمن المنطقي أن يوليه الشباب ظهره ولا ينخدع به . أما تيار العربدة والتهتك لدى شريحة قليلة من الشباب فلا اعتبار له ، وهو تيار يحاول الإعلام المأجور النفخ فيه للإيهام بأنه هو التيار المسيطر عسى أن يتحقق له هذا الوهم ، وما هو بحاصل حتى يلج الجمل في سم الخياط كما يقول الله عز وجل تعبيرا عن استحالة ما كان محالا .
ونختم بالقول أن حتمية التاريخ كما يقال هي أن يقوى التدين لدى الشباب عندما يظن خصوم الدين أنه في تراجع أمام اللادين .
وسوم: العدد 910