في الحاكمية ... وأخطر ما يعصف بنا
وأكثر ما تعرض للتشويه ، وسوء الفهم ، والقصر والاختزال من المصطلحات الشرعية مصطلح " الحاكمية "
بوعض حديثي الأسنان من يمين وشمال ظنوا أن المصطلح " الحاكمية" هو ابن العصر ، وأنه من اختراع أو ابتداع من يسمونهم " المفكرين الإسلاميين" من مثل الموددي وقطب رحمهما الله ، فهاجوا وماجوا في نقد المصطلح ، وفي الحملة عليه ، وفي تشويه القائلين به، والداعين إليه.
وعلى الطرف الآخر قوم آخرون قصروا المصطلح على عدد محدود من أحكام الشريعة، فجسدوه في خمسة أو ستة أحكام جعلوها عنوانا للشريعة الإسلامية ، واختزالا لسائرها، فكلما تمثلوا مثلوا بهذه الأحكام كأنها من الشريعة الإسلامية الأول والآخر ، والظاهر والباطل، وكلما حاضروا ضربوا الأمثال بها ...
وفي الحقيقة ، وكما يقول ، العلماء العارفون ، فإن أحكام الشريعة الإسلامية منظومة متكاملة من في شجرة مباركة جذعها اليسر ، وجذرها توحيد الله، والإقرار بألوهيته وربوبيته، وأنه الذي في السماء إله ، وفي الأرض إله .
وأحكام الشريعة الإسلامية كما يقسمها العالمون منظومة متكاملة من الأحكام تظلل حياة المسلمين ، بعدلها ويسرها وإيجابيتها ... منظومة من الأحكام 10% بالمائة من سوداها هي أحكام مقررة مفصلة، تدخل في هذه النسبة أحكام الأسرة والإرث والحدود . و90% من أحكامها أحكام مقدرة أو مفوضة لتقدير المسلمين ، ينزلونها على أصول شريعتهم في كل عصر بما يحقق مصالحهم، ويدرأ عن حياتهم مفاسد الأهواء وتشعب الآراء ..
والحاكمية كما ترددت في كتب الأصوليين في العلمين ، أصول الدين وأصول الفقه ، كانت إحدى المسائل الكبرى التي شغلت العلماء منذ القرون الأولى ، وكانت إحدى المسائل الكبرى في الخلاف بين أهل السنة والمبتدعة من المعتزلة وسواهم .. وقد تمثلت هذه القضية بسؤال : على أي أساس يتم تسمية القيم ، وفرز الأخلاق بين حسن أو وقبيح ...وإذا صح لنا هنا أن نتمثل هنا بقول ديستوفيسكي على لسان أحد أبطاله " إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح " فإن هذا سيعني أن الإيمان بالله تعالى هو الرقم الأول الذي سيعطي القيمة لكل أصفار علم الأخلاق. ومن هنا فالذين ألحدوا قالوا بعبثية الكون والحياة.
مدرسة أهل السنة بجمعها ذهبت إلى أن الحسن ما حسنه الشارع أي ما حسنه الله، وأن القبيح ما قبحه الشارع ، أي ما قبحه الله ..وعلى هذا فإن تحسين الشارع وتقبيحه يظل حكما ثابتا بحق " القيمة الأخلاقية" أو الفعل " الإنساني" بصوره المتغيرة في الزمان والمكان ...
والمعتزلة : زعموا أن العقل الإنساني هو الذي يمنح الأفعال قيمتها، ويلحق بها وصفها،، حسنها أو قبحها؛ ولم يخطر ببالهم ربما ما يطرأ على العقل الإنساني حينا من الخلل والاضطراب، حتى يقول قوم لوط يوما : أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون !!
الحاكمية تعني أن نقر نحن البشر بحكم الله أن " الظلم " بكل صوره وأشكاله قبيح، قبيح من أي جهة صدر ، وعلى أي جهة وقع . وأن نقر أن قتل الإنسان للإنسان قبيح . وأن الكذب قبيح .وأن أكل الربا قبيح. أن الزنا قبيح . وأن عقوق الوالدين قبيح. وأن الغدر قبيح ، وأن النكث قبيح ..
وكل أولئك وسط منظومة من الأحكام التفصيلية ، التي تستثني في سياق ، وتستدرك في آخر .. فيتغير الحكم تبعا لتلك الاستثناءات والاستدراكات.
وتتعلق الحاكمية أيضا في إقرارنا أن العدل جميل. وأن الصدق جميل. وأن الوفاء جميل. وأن الشكر جميل . وأن الحب جميل ... وسط منظومة من الأحكام التفصيلية التي تستثني في موقع وتستدرك في آخر ..
إدراك هذا الجمال وهذا القبح ، كلٌ في موقعه هو بعض مكونات الضمير الجمعي للبشر ،بما سماه البعض " القانون الطبيعي" حتى ليهرب القط من بين يديك إذا خطف لقمته منك ...
وإدراك هذا الجمال وهذا القبح ، كلٌ في موقعه وسياقه مكون أساس في العقل أو العرف الجمعي الإسلامي فيما سماه القرآن الكريم " المعروف والمنكر " التمييز التلقائي العفوي بين المعروف والمنكر، يجب أن يظل حيا في ضمائر المسلمين ، عقولهم وقلوبهم ...
والذي رابني منذ أيام أن تابعت حوارا ساخنا ، بين نخبة من المسلمين؛ يختلفون ويتجادلون في إلحاق واقعة بمكانها على سلم المعروف أو دركات المنكر . قد يكون الأمر في ذاته بسيطا ، ولكنه في دلالته خطير .
وهذا ما أشار إليه سيدنا عبد الله بن مسعود ، الذي قال عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : كنيف ملئ علما ، وعندما قيل له : ويل لمن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر ، فأجاب : بل ويل لمن لم يعرف قلبه المعروف من المنكر ..
وسوم: العدد 917