لماذا لم يتمكن نظام بشار.. من سحق الثورة السورية؟!
تحدثنا سابقاً في عدد من المقالات، عن النواحي السلبية التي غُرست أو كانت مغروسة في الشعب السوري عموماً، وفي الثوار خصوصاً، والرافضين لمنظومة حكم عائلة الأسد المتوحشة، والمُفْرِطة إلى الحد الأقصى في القتل، وسفك الدماء، والاعتقال، والسجن، والتعذيب حتى الموت، لمدة نصف قرن والمتمردين على العبودية لهذه العائلة القميئة، وطائفتها المارقة، الآبقة، العدوة، اللدودة لله ورسوله ودينه..
وما كان قصدنا من ذلك – يشهد الله – سوى التنبيه، والتحذير، والرغبة المخلصة الصادقة، للإقلاع عن تلك السلبيات المٌضْعِفة، والمُوهِنة للثوار، والمُخَذِلة للصمود، والاستمرار في طريق الثورة، والمانعة من التغلب على العدو الشرس!
مع العلم بأنه لا يخلو شعب، ولا إنسان على وجه الأرض، من السلبيات، ومن العيوب، والنقائص! إذ الكمال لله وحده، ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ولكن! بالرغم من السلبيات الكثيرة والتي تعششت في حنايا أضلع السوريين منذ زمن بعيد، وتجذرت في قلوبهم، مما أدت إلى انتكاسات كثيرة في الثورة، وإلى تراجع زخمها، وخفوت صوتها، وخمود شعلتها، وتناقص ألقها، وهمود لهيبها وأوارها!
إلا أنه لا يزال لدى قسم غير قليل منهم، معدنٌ نفيسٌ، صافٍ أصيلٌ، ولديهم أخلاقٌ زاكيةٌ، ويتحلى بعضهم بصفات كريمة، وشمائل طيبة، ويشع في قلوبهم، نور الإيمان بالله الواحد الديان، ويسري في حناياهم، الثقة واليقين بوعد الله الأكيد، بتحقيق النصر على الكافرين، والمجرمين، والمعتدين.
وينطبق عليهم ما ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة (النَّاسُ مَعادِنٌ، فخِيارُهم في الجاهليَّةِ خِيارُهم في الإسلامِ إذا فَقِهوا).
لا يزال لدى قسم غير قليل من الثائرين، تشبثٌ بالثورة، وتعلقٌ بأوصالها، وإصرارٌ على المضي بها إلى النهاية، وصمودٌ أسطوريٌ، لا يعرفُ التراجع، وثباتٌ راسخٌ كالجبال الراسيات، على تحرير سورية من المحتلين جميعاً، وطرد الغزاة الغاصبين، ونشر الأمن والسلام في ربوع سورية، وإرجاع جميع النازحين، والمهجرين إلى أراضيهم، وبيوتهم، ومزارعهم، ليعيشوا أعزاء، كرماء، أحراراً كما ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
وبعد مضي عشر سنوات عجاف على قيام الثورة، التي كانت حلماً بعيد المنال! وكان كثير من الناس - بما فيهم قسم كبير من السوريين - يستبعدون قيامها، بل كانوا يقولون في مجالسهم الخاصة: من المستحيل أن يتجرأ أحد على التمرد على نظام قمعي، مخابراتي رهيب! عدد أفراد المخابرات المتعددة الأفرع، يزيد عن عدد أفراد الجيش!
وقد صرح رأس النظام بشار الأبله، حينما سئل بعد انطلاق شرارة الثورات العربية، في تونس وليبيا ومصر، هل يمكن أن تحدث ثورة في سورية فقال: سورية تختلف عن بقية البلاد العربية، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تحدث فيها ثورة، ولا مجال لحدوث تظاهرات في سوريا، لأنه لا يَسودها أي سخط على النظام الحاكم - حسب قوله -!
وبالرغم من أنه كان حلماً بعيد المنال، أن تنطلق شرارة ثورة أو ثويرة في سورية، إلا أن الله قد ألهم بعض الناشطين والناشطات الأشداء، الشجعان، لأن يعلنوا ثورة كاسحة على نظام الأسد الطاغي، المستبد!
وقد تجاوب معظم الناس المقهورين، والمعذبين، والمستضعفين مع إعلان الثورة، وكسروا أغلال العبودية، وحطموا قيود الذل والخوف، وتجمعوا بمئات الألوف في ساحة العاصي في حماة، وفي ساحة الساعة في حمص، وفي بانياس، وغيرها من المدن، لكن الطغيان الأسدي، والقتل العشوائي للمتظاهرين، كان أكبر من قدرة تحمل الناس، وطاقتهم، فتراجعوا محزونين، متألمين، مكسوري الخاطر، ولكن لم يستسلموا – كما حصل في بعض البلدان العربية الأخرى – وبقيت شعلة الثورة متأججة، وملتهبة في قلوبهم!
وهذا ما يدفعنا إلى هذا التساؤل الكبير
لماذا لم ينتصر النظام الأسدي على الثورة؟! ولماذا لم يقض على الثوار، وعلى العصابات المسلحة المندسة - حسب زعمه -؟!
ولماذا لم يتمكن من إخماد لهيب الثورة؟! ولماذا لم يتمكن من إطفاء جذوة الثورة في قلوب الثائرين؟!
ولماذا لم يستطع تصفية، واستئصال عناصر الثورة، ورجالاتها، ونسائها.. وهو الذي ادعى إعلامه، وأبواقه، وزبانيته، حتى بما فيهم الكاهن الأكبر البوطي – الذي قتله النظام القمعي فيما بعد - وحسون – الذي لا يزال على عهده في الخضوع، والخنوع له! فقال الأول قبل قتله: إن الثوار ما هم إلا حثالة البشر، وشرذمة قليلون! وقال الثاني: وإنهم عما قليل، ليضمحلون، ويزولون، ويختفون!
وها قد مضت عشر سنوات.. ولم يضمحلوا، ولم يزولوا، ولم يختفوا.. بل زادوا وتكاثروا!
لماذا؟! والنظام الأسدي يملك كل مقومات، وعناصر الانتصار المادية، والإدارية، والتنظيمية، والعسكرية، والإعلامية!
يملك جيشاً جراراً، قوامه أكثر من نصف مليون مخلوق، ما بين الجيش، والشرطة، والمخابرات، والشبيحة (البلطجية)!
ويمتلك أسلحة رهيبة، فتاكة، مدمرة، فائقة القوة ما بين دبابات، ودروع، وصواريخ، وطائرات تحمل البراميل المتفجرة، ورشاشات، وكميات هائلة وضخمة من جميع أنواع الأسلحة، ذات الكفاءة العالية في التدمير، والقتل والتخريب، وغيرها، مما يصعب على مثلي إحصاءها، وتعدادها!
وتُعَاوِنُه، وتساندُه، وتآزرُه، وتدعمُه جيوشٌ جبارة، وقوى عالمية وإقليمية، ومحلية تملك أيضاً أسلحة فتاكة، ودول عظمى، وكبرى، وصغرى، بعضها يعلن ذلك جهاراً، نهاراً، وأخرى سراً، وخفية!
فإذا كان النظام الأسدي بما يمتلك من قوة جبارة، وبما يمارسه من جرأة متناهية، في القتل والذبح، والسلخ، لا يضاهيه أي نظام مر على وجه الكرة الأرضية، قديما أو حديثاً!
وجاءت جيوش الدنيا كلها.. تسانده، وتعاضده، وتدعمه، وتحارب معه بما تمتلك من إمكانيات، وخبرات هائلة من التفنن في القتل والذبح، وقادرة على أن تُبيدَ شعوباً كاملة، من على وجه البسيطة!
ومع هذا لم يستطع أن يسحق هذه الثورة، أو على الأقل أن يُضعِفُ من لهيبها! ومع هذا وذاك، لم يتحقق الحلم الكبير، بالقضاء على الثورة!
لماذا.. ثم لماذا، لم ينجح نظام بشار في القضاء على الثورة؟!
أولاً: لأن هذه الثورة بدأت بإرادة، وعناية ربانية، وتُدار برعاية إلهية.. تمد رجالها بالقوة، وتثبت أقدامهم، فتحول دون سقوطها، أو اضمحلالها، أو زوالها!
وهنا قد يتفذلك، ويتفلسف مرضى القلوب، والمرجفون، والعلمانيون، والذين على وجوههم غشاوة من الران القاتم المظلم.. فيقولون مستنكرين، ومعترضين، وبتحدٍ، وسفاهة، وجهل:
إذا كان هذا إلهكم، هو الذي يرعى هذه الثورة.. فلماذا لم ينصرها، ويخفف على الناس معاناتهم، وعذاباتهم، وآلامهم، وأوجاعهم؟
نقول لهؤلاء الذين لا يكادون يفقهون حديثاً: إن الله الرحمن الرحيم، يفتح بين الفينة والأخرى، باب الرحمة، ليلجوا إليه، فإن ولجوا، وتمسكوا بحبل الله الممدود لهم، وأطاعوه فيما أمر ونهى، وعملوا طبقاً للقانون الرباني الثابت، المستقر منذ خلق السماوات والأرض، تحقق لهم الغلبة على أعدائهم.
ولكن إن ولجوا ثم خرجوا! وغرتهم الدنيا، وغرتهم مطامعها، وذهبها، ودولاراتها، ومناصبها! وغرهم بالله الغرور، وتمنوا على الله الأماني، وظنوا أنهم قادرون على الانتصار على أعدائهم، بدون الاعتصام بحبل الله!
فإن الله تعالى! يدعهم لما يظنون به، ويتخلى عن نصرتهم، حتى يعودوا مرة ثانية إليه، متذللين، خاضعين، مستكينين له، ومنكسرين لجلاله وعظمته.
لإن الناموس الإلهي في هذا الكون قضى: أن لا يتحقق النصر إلا من خلال عمل العبيد، وليس من خلال رب العالمين! (إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ) محمد 7.
وذلك ليمتحنهم، ويبتليهم، ويختبرهم.. فيثيب المؤمنين، الصادقين، المجاهدين أجراً عظيماً، ويعاقب المتخاذلين، والكفرة المجرمين، وهذا هو الغرض الأساسي من الحياة الدنيا! (لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ ) الأحزاب 24. (وَلَوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَا۟ بَعْضَكُم بِبَعْضٍۢ ۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ) محمد 4.
فحينما يقوم العباد بالتمسك القوي والتشبث المتين بحبل الله الممدود لهم فهذا هو الانتصار لله فيكافئهم الله بالنصر وإن نصرهم فلا يمكن أن يغلبهم أحد على الأرض أبداً ولكن إذا لم يفعلوا ذلك فسيخذلهم الله وإن يخذلهم فلن يجدوا لهم نصيراً ولو اجتمعت أمم الأرض كلها ومعها ما يُسمى مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة (إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ) آل عمران 160.
ثانياً: لأن معظم الشعب السوري أصيل، وعنيد على تحصيل حقوقه مهما كانت التضحيات! فيمكن أن ينام فترة من الزمن، ولكن إذا استيقظ ، وصحا من سباته.. فإن يثور ثورة البركان المزلزل!
وإذا ثار.. فإنه يحطم القيود، ويكسر الأغلال، ويدمر أركان الطغيان، والاستعباد، والاستبداد! ولا يرجع إلى العبودية مرة ثانية، ولو تقطعت رقابه تقطيعاً، ونُشر جسده بالمنشار!
فهو إما ينتصر أو يموت عزيزاً كريماً، أبياً، شامخاً، يطاول برأسه عنان السماء، ويعانق السحاب والغمام، ويسقط شهيداً.. وليكون شاهداً على ظلم الطغاة وبغيهم!
علماً بأننا لا نبرئ هذا الشعب العظيم، من أنه يحتوي على أفراد سيئين، وأفراد استغلوا الثورة ليكونوا أمراء الحرب، ويثروا على حساب الضعفاء والمساكين، ويسرقوا وينهبوا المساعدات، ويبيعونها في السوق السوداء لحسابهم الخاص، حارمين المحتاجين!
كما وأن بعضهم يخون البعض الآخر، ويفشي أسراره! ومع هذا.. لم ينتصر الأسد! ولن ينتصر بإذن الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد.
وسوم: العدد 922