السودان وإلغاء المقاطعة الإسرائيلية: لهاث الدولة ومقاومة المواطن
أعلنت السودان، بقرار مشترك اتخذه مجلس السيادة ومجلس الوزراء، المصادقة على مشروع قرار يلغي قانون مقاطعة دولة الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعود إلى سنة 1958 ويندرج في إطار عريض يتابع قرارات الجامعة العربية لعام 1945 ومنظمة التعاون الإسلامي وهيئات أخرى سبقت تأسيس الكيان الصهيوني أو أعقبته. وكانت المقاطعة قد شملت ميادين سياسية واقتصادية في البدء، لكنها توسعت لاحقاً لتشمل الميادين الثقافية والأكاديمية، خصوصاً بعد أن اعتمدت دولة الاحتلال المزيد من السياسات الاستيطانية فباتت المقاطعة تشمل أيضاً منتجات المستوطنات غير الشرعية.
ومن حيث المبدأ السياسي تعتبر المقاطعة قراراً سيادياً يخص طبيعة العلاقات التي تقيمها الدول مع سلطة الاحتلال، بحيث تتفاوت المستويات بين مقاطعة الدولة بصفة سياسية واقتصادية ودبلوماسية شاملة، وبين مقاطعة منتجات المستوطنات وحدها، أو المقاطعة الثقافية التي تتوخى ممارسة الضغوط في سياق نصرة الشعب الفلسطيني خاصة وقضايا السلام والتحرر والقانون الدولي بصفة عامة. واضح بالتالي أن القرار السوداني يستكمل سيرورة التطبيع مع دولة الاحتلال، التي انطلقت أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بضغط مباشر من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
من الواضح أيضاً أن قرار إلغاء المقاطعة يستكمل سلسلة إجراءات توجّب أن يتخذها السودان في إطار موافقة واشنطن على رفع البلد عن لائحة الإرهاب الدولي، وبينها سداد 335 مليون دولار لضحايا الإرهاب تنفيذاً لقرارات المحاكم الأمريكية، بالإضافة إلى اللقاء الشهير بين رئيس المجلس السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في أوغندا بمعزل عن أي ترخيص من الحكومة المدنية. ليس خافياً كذلك أن قرار إلغاء المقاطعة يعتبر شرعياً من الناحية القانونية، بالنظر إلى أنه اتُخذ بصفة مشتركة بين مجلسَي السيادة والوزراء معاً، وفي غياب المجلس التشريعي الذي يتوجب أن تناط به قرارات سيادية حاسمة مثل هذه.
لكن الواضح والصحيح في المقابل هو أن إلغاء المقاطعة لا يقتصر على مؤسسات الدولة المختلفة وحدها، ولا يتوقف عند القرارات السيادية ذات الطابع السياسي أو الدبلوماسي أو الاقتصادي أو الأمني أو العسكري، بل تمتد خطورته لتشمل أيضاً المواطن السوداني العادي في مختلف مناحي حياته اليومية. ذلك لأن إلغاء قانون المقاطعة يرفع عن المواطن السوداني المدني أي حرج قانوني في التعامل المباشر مع دولة الاحتلال، ويبيح له ممارسة التعاطي المتنوع مع الجهات الإسرائيلية من دون أي وازع قانوني أو مساءلة قضائية.
هنا مكمن الخطورة في أخذ مسألة مقاطعة دولة الاحتلال على محمل سيادي محض لا يراعي العواقب الكثيرة التي يمكن أن تؤثر سلبياً على جهود عشرات المنظمات المدنية، المحلية والعربية والدولية، التي تعتمد على سلاح المقاطعة لممارسة الضغوط على دولة الاحتلال ومناهضة سياساتها العنصرية والاستيطانية في داخل فلسطين المحتلة، وكذلك على أصعدة خرق القانون الدولي والاستهانة بالمنظمات الحقوقية العالمية.
وهذا بالطبع جزء من الأثمان الباهظة، الأخلاقية قبل أن تكون سياسية واقتصادية، جراء اللهاث خلف قطارات التطبيع من دون الأخذ بعين الاعتبار مقادير تأثيرها على المواطن العادي العربي، الذي أثبت أنه لا يرفض التطبيع فقط بل يناهضه ويحاربه بكل ما ملكت قواه.
وسوم: العدد 925