خبران من حقبة مخجلة لأوروبا
يتعامل الإعلام الأوروبي ببرودة غير مفهومة مع تفاعلات وتطورات خبر البيان الذي أصدره عسكريون فرنسيون حول سياسة حكومتهم مع الوجود المسلم في البلاد بمختلف تجلياته.
بيان العسكريين الفرنسيين يشبه إلى حدٍ كبير ما كان معروفا في بلادنا بالبيان رقم واحد أي الإعلان الأول عن تدخل العسكريين في السلطة وقيامهم بانقلاب يزيحون فيه السلطة المدنية المنتخبة ويفرضون قبضتهم الأمنية على البلاد بقوة السلاح.
القيم التي تتباهى بها أوروبا منذ عقود لا ترى أي دور للعسكر في السياسة. وهو الأمر المنطقي لموظفين يتلقون رواتبهم من أموال دافعي الضرائب مقابل عمل محدد يقومون به وهو حماية البلاد، ما يجعل بيان العسكريين الفرنسيين انتكاسة حقيقية للقيم الأوروبية والقيم الفرنسية.
البيان المذكور لم يصدر في دولة من دول أوروبا الشرقية التي لا تزال تعاني من مشاكل سياسية واجتماعية ونزعات قومية متعصبة ورثتها من الحقبة السوفيتية، بل في قلب أوروبا وفي دولة تعد من أعمدة الاتحاد الأوروبي وأهم دوله.
البيان يظهر بشكل واضح أن عقائد العسكر في الشرق والغرب متشابهة إلى حدٍ كبير، وأن أكثر من جيش يرى أنه ضامن الحياة السياسية الأخير والحكم الفاصل بين الفرقاء السياسيين، وأن له الحق في التدخل فيها حينما يرى ذلك ضروريًا، وأن الإدارة السياسية المنتخبة قاصرة عن حكم البلاد بطريقة صحيحة، فيما العسكر لديهم الطريقة الأمثل والحق في استخدامها حينما يقتضي الأمر.
اليمين الفرنسي المتطرف سارع إلى مساندة البيان واستغلال هذه الفرصة، كما ظهر أن فئات من الشعب الفرنسي تعاطفت مع فكرة تدخل الجيش في السياسة، في ظاهرة غريبة. وواقع الأمر أن من يعيش في أوروبا يدرك أن اليمين المتطرف والتيار الشعبوي لديه حنين كبير إلى عهد الديكتاتوريات اليمينية التي حكمت أوروبا في القرن الماضي. ويرى القوميون واليمين المتطرف أن الجيوش الأوروبية هي الضمانة الأكبر لسلامة أوروبا وضمان استمرارها في وجه تهديدات أهمها التهديد الديموغرافي وتزايد أعداد الأجانب في أوروبا وتعاظم نفوذ اليسار. وهؤلاء لا يرون أي ضير في تدخل العسكر وتسلمهم السلطة بانقلاب عسكري، كما يرون أنه لا مشكلة في تدخلهم في السياسة.
هذا التيار يشبه كذلك هواة الديكتاتوريات في بلاد العالم الثالث الذين يرون كذلك أن الجيوش تمتلك الأوطان وأن لها حق التدخل وقلب الأنظمة السياسية، وهؤلاء كذلك يعطون الجيوش مكانة متقدمة في المجتمع ويرون أن المواطن – الذي يدفع مرتبات الجيش من ماله – يجب أن يدين بالولاء لجيش بلاده وأن يتقبل تدخل العسكر في السياسة بطيب نفس.
يحق إذن لأوروبا أن تخاف وأن تخجل من بيان العسكر الفرنسي، ليس لأنه عنصري موجه نحو مكون فرنسي بعينه، بل لأنه استرجع ذكريات عسكريات فاشية لا فرق بينها وبين ديكتاتوريات الدول الأخرى التي تتيه أوروبا فخرًا واستكبارًا عليها بتسميتها بدول العالم الثالث.
الخبر الثاني جاء من فرنسا كذلك ويفيد بإلقاء القبض على أعضاء سابقين في منظمة الألوية الحمراء الإيطالية. وبعيدَا عن الخوض في تفصيلات العملية، ثمة سؤال لم يطرح بخصوص ملف الإرهاب الأوروبي الذي روّع أكثر من بلد في القارة العجوز خلال القرن الماضي وحصد آلاف الضحايا.
الغريب في هذا الملف أن هذا الإرهاب الذي كانت له خلفيات أيديولوجية ودينية ومناطقية تمت لفلفته خلال سنوات قليلة وكأنما استنفد أغراضه، وذلك تجهيزًا لمرحلة جديدة واختراع إرهاب آخر ينسب إلى دين معين ومنطقة جغرافية معينة وجاليات بعينها.
الإرهاب الأوروبي تمت لفلفته بقدرة قادر لتصل أوروبا إلى أيامنا هذه التي لا يُسمع فيها صوت إرهاب غير الذي يقوم به منسوبون إلى الإسلام برعاية خفية من أجهزة استخبارات أوروبية وعالمية ولتسهم في تشويه الإسلام والمسلمين دون غيرهم.
وهكذا وصلنا اليوم إلى عشرات الأخبار اليومية عن حوادث اعتداء على مسلمين وعلى غيرهم لا تغطيها وسائل الإعلام الغربية، فيما تضج تلك الوسائل بأي منتسب إلى الإسلام يرتكب أدنى جريمة. كما تتغاضى تلك الوسائل عن جميع إيجابيات الجاليات المسلمة لتضج بأي ناحية سلبية من أفراد أو أقلية معزولة داخل تلك الجاليات. وتحول الحديث من الوجود المسلم في أوروبا إلى " الإسلام السياسي" الذي يعني في الذهنية الغربية التوسع وفرض ثقافة الشرق على بلاد الغرب.
هذه الواقع الجديد يجعل الأمور أكثر تعقيدًا بالنسبة لهذه الجاليات ويفرض عليها حسم أمرها والدخول في معترك النضال الاجتماعي والسياسي والعمل التطوعي وفرض أصواتها في العملية الانتخابية والحضور الاجتماعي كعامل حماية لها من هذه الموجة الجديدة التي تريد أن لا تبقي لها على أي هوية أو خصوصية.
وسوم: العدد 927