الحركة الإسلامية بين ثقافة المنع وثقافة المناعة
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
المتابع للكثير من النقاشات الفكرية والثقافية والعلمية والسياسية لأبناء الحركة الإسلامية ومناضليها وحتى قادتها ، يلاحظ بوضوح حضور ثقافة المنع لدى الكثيرين منهم في أغلب الأحيان كأسهل الحلول في التعامل مع ما يطرحه الآخر الفكري والسياسي والثقافي والإعلامي ، سواء كان هذا الآخر شخصا أو هيئة أو فكرة أو كتابا أو جريدة أو قناة أو غير ذلك ، خاصة عندما يصدر منه موقف لا يعجبهم أو لا يتماشى وقناعاتهم ومسلّماتهم .
كما إن حضورها لافت كذلك في التعامل مع القضايا الداخلية من أفكار وأشخاص ومواقف وآراء وممارسات وإبداء رأي ونقد ممارسة أو سلوك .
وثقافة المنع هذه ليس بالضرورة يكون مصدرها الكيان أو الجماعة أو الحركة أو القيادة بأن تصدر أوامر مثلا على شاكلة :لا تقرؤوا كذا ولا تشاهدوا كذا ولا تسمعوا لفلان أو علاّن ، أو قاطعوا الجريدة أو القناة أو الكتاب الفلاني ، أو لا تناقشوا الفكرة الفلانية والموقف الفلاني ، لكن نجد ثقافة المنع في الكثير من الأحيان حاضرة في أذهان البعض وتصرفاتهم بشكل تلقائي بما يشبه الرقابة الذاتية ، بحيث تجدهم يتحرجون أو لا يجرؤون على مناقشة موقف أو رأي أو فكرة أو إبداء رأي في تصريح لقائد مثلا أو سلوك أو ممارسة له ، ويمتنعون عن ذلك توجسا أو خوفا من التصنيف أو التجريم أو الاتهام أو الشيطنة ، وتحت حجج مختلفة الكثير منها لا مبرر له إلا رسوخ ثقافة المنع التي نتحدث عنها في لا وعي هؤلاء ، ولا ترى في مقابل ذلك إلا المسموح به ذاتيا وليس بالضرورة حركيا أو تنظيميا كما قلنا وهو المدح والثناء والتمجيد والتبرير وصناعة الأعذار ، هذا على المستوى الداخلي .
أما على المستوى الخارجي فنجد ثقافة المنع حاضرة كذلك في التعامل مع الآخر الفكري والسياسي والأيديولوجي ، سواء كان هذا الآخر مواقفا أو أفكارا أو أشخاصا أو كتبا أو هيئات ، أو وسائل إعلامية أو أدبية أو ثقافية أو فنية أو غيرها ، فتجد التوجس يصل في بعض الأحيان إلى التكفير التنظيمي من كل من يتعامل ويتفاعل فكريا أو ثقافيا بطريقة أو بأخرى مع المنتوج الفكري والثقافي للآخر المخالف حتى داخل الدائرة الأيديولوجية الواحدة ، وإن تم تجاوز ثقافة المنع قليلا وقرء الآخر من طرف البعض فيقرأ للحذر والتحذير ومعرفة خططه، ويقرأ كذلك بمنطق الحكم المسبق والصورة النمطية ، ولا يقرأ بمنهجية التفاعل الإيجابي مع الأفكار المتداولة مهما كانت مخالفة.
وثقافة المنع هذه في الحقيقة هي نتاج نوع معيّن من التربية تراكمت ، بحيث أصبح الفكاك منها ليس بالأمر السهل ، لكنه رغم ذلك هو ضرورة واقعية وحركية .
وفي ظل الانفتاح الفكري والثقافي والإعلامي ، وتطور وسائله بشكل سريع ، بحيث أصبح العالم قرية مفتوحة تتفاعل فيها الأفكار والثقافات المختلفة والمتنوعة والمتناقضة أحيانا ، أصبحت ثقافة المنع هذه لا تجدي نفعا ، بل أصبح ضررها على الأفراد والكيانات والأفكار أكبر ، وتأثيراتها السلبية واضحة للعيان .
والبديل العملي والواقعي والأكثر جدوى لها هو التربية على ثقافة المناعة ، بحيث يتفاعل الفرد مع كل الأفكار والمواقف والثقافات والإنتاج الفكري والثقافي والمعرفي والإعلامي متابعة وقراءة وإطلاعا ومناقشة ونقدا وإبداء رأي إن على مستوى الداخل الحركي والتنظيمي ، أو على مستوى الخارج ، بحيث يتم من خلال العملية التربوية تعميق عناصر المناعة لديه ، ويتسلح بقسط وافر من ثقافة المناعة هذه ، والتي من شأنها أن تحصنه وتعصمه من التأثر السلبي ، رغم أنه يتفاعل مع جميع الموجود في محيطه وفي العالم ، ويبدي رأيه في كل ما هو مطروح من حوله ، أو حتى في داخل الكيان التنظيمي أو الفكري الذي ينتمي إليه دون عقدة أو خوف أو توجس أو قلق ، بحيث توفر له القدرة على الغربلة والتصفية ، إذ يستطيع أن يستفيد حتى من الفكر المخالف له ليخرج من الليمونة الحامضة شرابا حلوا كما قال الشيخ الغزالي رحمه الله ، ويكون في اللهب ولا يحترق كما قال الرافعي رحمه الله ، فيكون كل فرد بثقافة المناعة هذه يقتحم كل ميدان ونقاش وحوار فكري بأفق واسع ونفس منفتحة ، فيشكل إضافة نوعية وحجة للحركة و الجماعة التي ينتمي إليها وللفكرة التي يمثلها ، بدل أن يكون عالة وحجة عليها ، يعيش داخل كهوف مظلمة وجدران عازلة وأبواب محكمة الغلق ، لا يتفاعل مع فكرة أو موقف ، ولا يساهم برأي ولا يطلع على جديد معرفي أو فكري أو ثقافي ، ينتظر فقط أن يفكر الآخرون بدلا عنه ، أو يخبروه ويعلموه بما ورد في الجريدة أو القناة أو المجلة أو الكتاب أو الدراسة الفلانية ، وما أبدته الجهة العلاّنية من مواقف أو طرحته من آراء وأفكار، فيحدد موقفه من كل ذلك بما وصله عن طريق هؤلاء ولا يكلف نفسه أن يبحر بها في كل هذه الوسائل ويشغل آلته التفكيرية الذاتية ، بسبب طغيان ثقافة المنع لديه بدل ثقافة المناعة.
لقد آن الأوان مع كل المتغيرات التي تميز واقعنا ومحيطنا أن تنتقل الحركات الإسلامية في تربية أفرادها ومناضليها من ثقافة المنع ــ التي يمكن أنها كانت مقبولة ومتفهمة ومبررة في مراحل التأسيس التي مضت ، لكنها أصبحت تشكل عائقا كبيرا الآن إن لم تكن مشكلة عويصة ، تسببت في الكثير من الأزمات نحن في غنى عنها ــ إلى ثقافة المناعة التي تسمح للفرد المناضل داخل هذه الحركات أن يتنفس الحرية في الإطلاع والمتابعة والتفاعل وإبداء الرأي وإن كان مخالفا وناقدا ، ويحلق في فضاء الفكر والثقافة والمعرفة بثقة نفس وعمق وعي ومتانة تربية ووسع أفق ورصيد فكر وعلم ، مع امتلاكه مناعة فكرية وتربوية تمنعه من الوقوع في حدّي التقديس والتبخيس ، أو الانبهار والرفض المطلق لأيّ كان من شخص أو هيئة أو فكرة أو كاتب أو كتاب على مستوى الداخل أو الخارج ، بحيث يساهم بروح ثقافة المناعة لديه في ارتفاع منسوب مردوديته على الذات والفكرة والجماعة والحركة والمشروع والوطن والأمة .
فالانتقال إلى ثقافة المناعة بالمعاني التي ذكرناها ــ لأنه في بعض الأحيان تستخدم حجة المحافظة على المناعة والحصانة في تكريس ثقافة المنع ــ أصبح واجب وقت ، في حاجة إلى بلورة وتأصيل لها في إطارنا الفكري وبعدنا التربوي ، وأنا أبحث عن تأصيل لفكرة ثقافة المناعة هذه وجدت كلمتين رائعتين لشيخ الإسلام ابن تيمية ولتلميذه ابن القيم رحمهما الله تصب في هذا الاتجاه ، وتصلح منطلقا تأصيليا لهذا الأمر، أما الأولى فهي وصية أوصى بها شيخ الإسلام تلميذه ابن القيم في منهجية التعامل مع الأفكار والمعارف والعلوم والمواقف والأحوال حيث قال له:(( لا يكن قلبك مثل الإسفنجة يتشرّب كل شيء ، بل اجعله مثل الزجاجة ترى الحقائق من ورائها ولا يدخلها شيء ، يأخذ ما ينفعه ويترك ما يضره ، يأخذ الصالح ويترك الفاسد)).
أما الثانية فكلمة لابن القيم يقول فيها : (( والبصير الصادق من يضرب في كل غنيمة بسهم ، ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها)).
والممارسة العملية تجعل الفرق شاسعا ــ من كل النواحي والنتائج كذلك ــ بين ثقافة المنع وثقافة المناعة.