لا يحسن بعلماء الأمة الإسلامية اليوم السكوت على ما يتهددها من أخطار في هويتها
إن الظرف الحالي الذي تمر به الأمة الإسلامية خصوصا في الوطن العربي يشبه تماما ظروفا عصيبة مرت بها في فترات تاريخية سابقة قد سجلها وحفظها لنا التاريخ ، وليس من المبالغة القول أن وضعها اليوم أسوأ من أي وقت سيء مرت به فيما مضى ، وأن هويتها لم تعرف من استهداف ما تعرفه اليوم من طرف أعدائها الذين صاروا يسلكون طرقا وأساليب في منتهى الخبث والمكر، وصاروا يضللونها بإيهامها أن مصلحتها في ارتباطها بهم عن طريق معاهدات وعلاقات وصداقات، وأنها تلتقي معهم عند أهداف واحدة ومصالح مشتركة ، ووسيلتهم في هذا الزعم الباطل هو التشكيك في الثقة بين مكوناتها بل نزعها من أجل الانفراد بكل مكون على حدة وهو ما سعّر نار الخلافات فيما بينها وقد أفضت إلى صراعات دامية فككك أوصال هويتها ، وذهبت بريحها ، وصدق بذلك عليها ظن أعدائها .
ولقد سجل لنا التاريخ أن المعول عليهم في صيانة وحماية بيضة الأمة الإسلامية حين تعصف بها رياح الكيد هم علماؤها الربانيون الصادقون الذين كانوا يقدرون مسؤوليتهم الجسيمة في صد كل خطب عنها ، وكانوا أصحاب شجاعة وجرأة لا يثنيهم عن القيام بواجبهم الشرعي ما يهدد حياتهم ، ولا يترددون في ذلك ، ولا يساومون مقابل صمتهم الذي هو شر ووبال على الأمة إذا ما حصل شيء منه .
ولقد كان من المفروض والوضع الحالي الذي تمر به الأمة على ما هو عليه من خطورة أن تجتمع كلمتهم في كل ربوع البلاد الإسلامية عموما والعربية خصوصا لا تفرقهم طائفية أو مذهبية لأن الظرف لا يسمح بذلك ، و لأنه لا وقت لانشغالهم بالخلافات الطائفية والمذهبية ، والتطويح بالأمة في متاهاتها لأن ذلك إنما يخدم ما يريده أعداؤها من طمس لمعالم هويتها.
ومعلوم أن علماء الأمة يدركون جيدا أكثر من غيرهم أن الأمة في حاجة إلى إرشاد ، وتنبيه ، وتوجيه ، وتحذير مما يتهددها في دينها وكيانها وهويتها ، وهو ما لا يستطيعه غيرهم بحكم الميثاق الذي واثق به الله عز وجل أهل العلم كما جاء في قوله عز من قائل : (( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّننه للناس ولا تكتمونه )) ،وليس حكم هذا القول خاصا بعلماء أهل الكتاب بل ينسحب على علماء أمتنا أيضا . وعلى كل من انخرط في زمرة العلماء أن يستحضر قبل ذلك ميثاق الله عز وجل الذي واثق به ، فينبري لتبيين ما يجب بيانه للأمة وإلا وقع فيما وقع فيه علماء أهل الكتاب الذين قال فيهم سبحانه وتعالى : (( فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فيئس ما يشترون )) . وفي هذا القول ما يوضح كيف يحصل نقض الميثاق الذي واثق به الله عز وجل أهل العلم حيث يقع منهم إما نبذ ما يجب تبيينه أو تبليغه للناس وراء ظهوره ،كناية عن إهمالهم له إذ المفروض في الأمر المهم أن يستقبل ولا يستدبر أو يبيعون ذممهم مقابل النبذ ، ويكون الثمن إما خوفا من استشعار خطر أو رغبة في امتياز أو منصب أو شهرة أو مال أو غير ذلك مما يسد مسد ثمن النبذ .
وعلماء الأمة يدركون أكثر من غيرهم مقولة الإمام علي كرّم الله وجهه : " ما أخذ الله عن أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ عن أهل العلم أن يعلّموا " . ولهذا لا يليق بأهل العلم أن يكون شغلهم منحصرا في العيب على أهل الجهل ، وهم لا يؤدون أمانتهم على الوجه الصحيح . ومهما يكن جهل الأمة ـفإنه لا يفوتها أن تميز بحسها الديني أو الفطري من هم بحق أهل العلم من غيرهم ، ومعيارها في ذلك أو دليلها هو تسجيل السكوت عليهم حيث لا يحسن سكوتهم والأخطار تحدق بها ، والمكائد تكاد لها ليل نهار ، الشيء الذي يفقدها الثقة فيهم بل يصيرون عندها محل اتهام بنقض ما واثقهم الله عز وجل به .
ومما لا يليق بأهل العلم في هذا الوقت بالذات أن يكون حديثهم في المحافل والمواقع والمنابر الإعلامية منصرفا كل الانصراف عما يجب الخوض فيه من مواضيع وقضايا تمس ما يتهدد الأمة في هويتها ، وفي مقدساتها .
وليس علم العالم أن يظهر الشطارة والخبرة والتمكن، ويصول ويجول فيما لا طائل من ورائه من كلام ، ولا فائدة ترجى منه في هذا الظرف بالذات . ولقد بات واضحا أن المحك الذي يعرض عليه اليوم أهل العلم هو تسجيل موقفهم الواضح مما يتهدد الأمة حاليا دون لف أو دوران أو مداراة وهم يريدون بذلك أن يأمنوا من يخشون بطشهم ، وفي نفس الوقت يريدون الحفاظ على سمعتهم ومكانتهم عند الأمة التي لا يمكن أن تقبل منهم هذا الموقف المتخاذل .
ولم يعد اليوم مقبولا من أهل العلم أن ينحوا باللوم على الأمة ، وهم متقاعسون عن أداء واجبهم أو يريدون منها شجاعة وجرأة ، وهم قد تدثروا بالجبن علما بأن شجاعة الأمة وجرأتها إنما تستمد من شجاعة وجرأة أهل العلم ، وعلى قدر جرأة وشجاعة هؤلاء تكون جرأتها وشجاعتها لأنهم هم قدوتها وإسوتها .
وما من عالم يتعرض إلى مضايقة أو عقاب بسبب شجاعته وجرأته في مواجهة ما يتهدد الأمة في هويتها إلا وازدادت مصداقيته عندها ، وكان نعم الإسوة والقدوة ، و يحصل خلاف ذلك إن هو ركن إلى السكوت حيث لا يحسن سكوته أو اشتغل عما يوجب الواقع الراهن الخوض فيها من قضايا بما لا يسمح به بل يمنعه .
ومن نقض أهل العلم ما واثقهم به الله عز وجل أن ينبذوا كتابه وراء ظهورهم أو يقايضوا بذلك تحقيق مصالحهم هو تعمدهم تجنب بيان ما جاء في كتاب الله عز وجل من أخبار عن الذين يستهدفون هوية الأمة والتحذير من مكرهم وكيدهم ودسائسهم ، ويكاد يصير ما يذكره الكتاب الكريم من ذلك في حكم المحظور لا يخوض فيه معظم العلماء ، ولا يبيّنونه للأمة ، وقد وجب اليوم بيانه أكثر من أي وقت مضى ، وإنه اختبار لعلماء الأمة قبل أن يكون اختبارا لها .
وسوم: العدد 958