مباحث في الجزية
مباحث الجزية في الإصطلاح الفقهي :
هي ضريبة سنوية على الرؤوس تتمثل في مقدار زهيد من المال يفرض على الرجال البالغين القادرين، على حسب ثرواتهم، أما الفقراء فَمُعْفَونَ منها إعفاء تاماً، قال الله تعالى : (لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها)(1). وليس للجزية حدٌ معين، وإنما ترجع إلى تقدير الإمام الذي عليه أن يراعي طاقات الدافعين ولا يرهقهم، كما عليه أن يرعى المصلحة العامة للأمة.(2)
تعريف الصغار :
- الصغار : هو جريان أحكام الإسلام عليهم (أي على أهل الذمة).(3)
وأما قوله تعالى في الآية (صاغرون) فهو من الصغار: المراد به خضوعهم للدولة الإسلامية والتزامهم بأحكام الشريعة فيما وافق شرائعهم، أو فيما ليس له في شرائعهم وجود.(4)
وأما قوله (عن يد) فمعناه : عن غنى وقدرة... فإن كانوا غير قادرين فليسوا مكلفين بها.(5)
_____________________________________________________________________________
(1) – (الطلاق 7)
(2) – (الدكتور يوسف القرضاوي – غير المسلمين في المجتمع الإسلامي – ص34)
(3) – (انظر : الأم للشافعي : - جـ 4 ص207 . المحلى لابن حزم – جـ 7 ص346 . أحكام الذميين والمستأمنين للدكتور عبد الكريم زيدان – ص41)
(4) – (الأم للشافعي – جـ 2 ص179 . الأحكام السلطانية – للماوردي – ص143)
(5) – (الأحكام السلطانية للماوردي – ص143 . تفسير ابن كثير – جـ2 ص347 . تفسير الطبري – جـ6 ص77 . أحكام القرآن لابن العربي – جـ2 ص910)
يقول اللواء محمود شيت خطاب :
"فمن يقرأ بتدبر وإمعان، كل ما كتبه ابن القيم الجوزية في كتابه (أحكام أهل الذمة) عن الجزية، يكبر سماحة الإسلام في معاملة الذميين، فحين يعرض الآية الكريمة : (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) يأبى تفسير هذا الصغار بالامتهان والإذلال، ويصرح بأن هذا كله لا دليل عليه، ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة. (1)
ثم يؤثر تفسير الصغار بالتزام الذميين جريان أحكام الملة عليهم وإعطاء الجزية.(2)
على من تجب الجزية :
تؤخذ الجزية من كل الذين يخضعون لحكم الإسلام ويعيشون في المجتمع الإسلامي ويحملون تبعية الدار الإسلام (الدولة الإسلامية) سواء أكانوا أهل كتاب أم لا كتاب لهم، عرباً أو عجماً.(3)
شروط وجوب الجزية :
أولاً : العقل والبلوغ والذكورة، فلا تجب على الصبيان والنساء والمجانين.(4) وعند الظاهرية : تجب على النساء كما تجب على الرجال.
ثانياً : السلامة من الزمانة والكبر في ظاهرة الرواية عند الحنفية – وهذا مذهب الحنابلة والمالكية والزيدية.
وقال الشافعية : تجب الجزية على هؤلاء... وفي المذهب قول آخر بعدم الوجوب كالنساء والصبيان.(5)
_____________________________________________________________________
(1) – (مقدمة التحقيق للدكتور صبحي الصالح – ص7-8 لكتاب (أحكام أهل الذمة) لابن القيم الجوزية ص23)
(2) – (اللواء محمود شيت خطاب – الشورى النبوية في المجال العسكري – المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – مؤسسة آل البيت – سلسلة الشورى في الإسلام – جـ3 ص971 – عمان – 1989م)
(3) – (الكيا الهراسي – أحكام القرآن – جـ3 – ص192) نقلاً عن الدكتور علي الصوا – موقف المسلمين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي – المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – سلسلة معاملة غير المسلمين في الإسلام – جـ1 ص180)
(4) – (تفسير القرطبي – جـ8 ص118. ابن القيم – أحكام أهل الذمة – جـ1 ص42 . ابن قدامة – المغني جـ8 ص507. أحكام القرآن للجصاص – جـ3 ص96 . الام للشافعي – جـ4 ص98. الخراج لأبي يوسف – ص122 – 123. شرح موطأ مالك للزرقاني – جـ2 ص141. المهذب جـ2 ص268 . الكاساني – بدائع الصنائع جـ7 ص111)
(5) – (ابن القيم – أحكام أهل الذمة – جـ1 ص49. السرخسي – المبسوط – جـ10 ص79 . أبو يوسف الخراج – ص144 . المغني لابن قدامة – جـ8 ص510 . مفتي المحتاج – جـ4 ص246) نقلاً عن الدكتور عبد الكريم زيدان – أحكام الذميين والمتأمنين –ص140 – 141 ، وعن الدكتور علي الصوا – المصدر السابق – جـ1 ص184
- ثالثاً : (1) أن لا يكون الذمي فقيرا غير معتمل – وهو الذي لا قدرة له على العمل والكسب، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة والمالكية.
أما الشافعية : فالجزية عندهم تجب على الفقير العاجز عن الكسب، فإذا تمت السنة وهو معسر ففي ذمته حتى يوسر، وفي قول غير مشهور عندهم لا جزية عليه.
- رابعاً : الحرية : فلا تجب على العبد لأنه ليس من أهل ملك المال.(2)
- خامساً : أن لا يكون راهباً، وهذا مذهب المالكية والحنابلة.
أما عند الحنفية : فالجزية لا توضع على الرهبان الذين لا يخالطون الناس، فإذا خالطوهم وضعت عليهم الجزية، وفي قول أنها توضع عليهم إذا كانوا يقدرون على العمل.
وعند الشافعية : تجب الجزية على الراهب... وفي قول بعدم وجوبها عندهم. ويقول الدكتور عبد الكريم زيدان : والراجح عدم وجوبها على الرهبان لأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال عادة.(3)
سادساً : أن لا يكون من الفلاحين والحراثين الذين لا يقاتلون، وقد انفرد بهذا الرأي الإمام أحمد بن حنبل.(4)
_____________________________________________________________________
(1) – (انظر في موضوع هذا البند : الدكتور عبد الكريم زيدان – المصدر السابق . والدكتور علي الصوا – المصدر السابق)
(2) – (تفسير القرطبي – جـ8 - ص112 . الكاساني – بدائع الصنائع – جـ7 ص111. كشاف القناع – جـ1 – ص770)
(3) – (الدكتور عبد الكريم زيدان – المصدر السابق)
(4) – (ابن القيم – أحكام أهل الذمة – جـ1 ص51)
متى تسقط الجزية :
تسقط الجزية عن الذمي (المعاهد) بإحدى الحالات التالية :
1 – الإسلام : إذا أسلم الذمي تسقط عنه الجزية.(1)
2 – الموت (2).
3 – مضي المدة : ويراد بذلك مضي سنة أو أكثر على وجوب الجزية دون أن تستوفى من الذمة.
وقد اختلف الفقهاء في هل يجب على الذمي أداء جزية ما مضى أم لا ؟ وقد رجح الدكتور عبد الكريم زيدان عدم سقوط الجزية بمضي المدة.(3)
4 – طروء بعض الأعذار المانعة من ايجاب الجزية، كأن يفتقر الذمي بعد غنى، أو يعجز عن العمل بعد قدرة أو يصيبه الكبر بعد الشباب فإذا طرأ ذلك ونحوه عليه فإن الجزية تسقط عنه.(4)
5 – عجز الدولة عن حماية أهل الذمة : وممن قال بهذا يرى أن الجزية بدل عن الحماية لأن الإسلام لم يلزم الذميين بواجب الدفاع عن دار الإسلام رعاية لهم وعناية بهم فإذا عجزالمسلمون عن حمايتهم لم يبق ما يدعو إلى بقائها فتسقط.(5)
ويدل على هذا السوابق التاريخية في زمن الصحابة. ومنها :
أ – جاء في صلح خالد بن الوليد لأهل الحيرة : "إني عاهدت على الجزية والمنعة... فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا حتى نمنعكم".(6)
ب – ما فعله أبو عبيدة (عامر بن الجراح) حين أبلغه نوابه عن مدن الشام بتجمع جحافل الروم، فكتب إليهم أن يردوا الجزية عمن أخذوها منهم، وأمرهم أن يعلنوهم بهذا البلاغ : "إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم (أي نحميكم) إنّا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشروط وما كتبنا بيننا وبينكم، إن نصرنا الله عليهم".(7)
_____________________________________________________________________
(1) – (انظر : الفتاوى الهندية – جـ2 - ص246 . شرح الموطأ للزرقاني – جـ2 - ص141. ابن القيم – أحكام أهل الذمة – جـ1 - ص57 – 58. متن المنهاج جـ4 ص249)
(2) – (انظر : أحكام الذميين والمستأمنين للدكتور عبد الكريم زيدان – ص149 – 151)
(3) – (الدكتور عبد الكريم زيدان – المصدر السابق – ص151 – 153)
(4) – (انظر : الخراج للإمام أبي يوسف – ص144)
(5) – (الدكتور عبد الكريم زيدان – المصدر السابق ص154 – 155)
(6) – (تاريخ الطبري – جـ4 – ص16 )
(7) – (الإمام أبو يوسف – الخراج – ص139)
6 – اشتراك أهل الذمة بالدفاع عن دار الإسلام.
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان بسقوط الجزية في حال اشتراك الذميين في الدفاع عن دار الإسلام : "ولم ينقل لنا خلاف فيه، بل إن عمر بن الخطاب قد حسن هذا الإجراء عندما أخبره سراقة (أحد قادة جيش المسلمين) (بالعهد الذي أعطاه لأهل أرمينية) مما يدل على أن هذا الحكم كان مجمعاً عليه في زمن الصحابة.(1)
ومن السوابق الدالة على ذلك :
1 – كتاب عتبة بن فرقد عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أهل أذبيجان.(2)
2 – كتاب سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، لأهل أرمينية.(3)
3 – كتاب سويد بن مقرن – قائد جيش المسلمين في بلاد فارس – إلى ملك جورجان.(4)
نواقص عقد الذمة :
يلاحظ متابعة أقوال الفقهاء أن شروط عقد الذمة من حيث انتقاض العقد بمخالفتها، أو عدم انتقاضه، إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : اتفاق جمهور الفقهاء على أن عقد الذمة ينتقض في حال مخالفة أهل الذمة لبعض الشروط والإخلال بها، كقتالهم المسلمين، والامتناع عن إجراء أحكام الإسلام عليهم والامتناع من أداء الجزية لمنافاة ذلك مقتضى العقد ومقصوده في الأمن والأمان، سواء شرط ذلك في العقد أم لا.(5)
القسم الثاني : اتفاقهم على بعض الشروط على أنها لا تنافي مقتض العقد ومقصوده، كترك ضيافة المسلمين، ونقش خواتمهم وتزييهم بزي المسلمين ونحو ذلك مما تختلف مفسدته بحسب آراء الفقهاء.(6)
القسم الثالث : وقد اختلف الفقهاء فيه : هل يلحق بالقسم الأول فينتقض عقد الذمة بمخالفته، أو بالقسم الثاني فلا ينتقض، كالزنا بمسلمة، أو اصابتها باسم النكاح، أو دلالة أهل الحرب على عورة المسلمين، أو افتان مسلم عن دينه، او قطع الطريق على المسلمين، أو قتل مسلم، أو طعن في الإسلام أو القرآن، أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء.
_____________________________________________________________________
(1) – (أحكام الذميين والمستأمنين – ص 154 – 155)
(2) – (تاريخ الطبري – جـ5 - ص250)
(3) – (تاريخ الطبري – جـ5 - ص257)
(4) – (المصدر السابق – جـ5 - ص254)
(5) – (الأم للشافعي – جـ4 – ص188. حاشية ابن عابدين – جـ4 – ص212 – 213. المغني والشرح الكبير لابن قدامة المقدسي – جـ1 – ص598)
(6) – (الدكتور علي الصوا – المصدر السابق – جـ1 – ص288)
يقول الدكتور علي الصوا : "والذي أراه راجحاً في هذه المسألة أن يقتصر حكم النقض على القسم الأول فقط، وما سوى ذلك من الجرائم والمخالفات فسبيلها سبيل العقوبات المقررة على مرتكب موجباتها من المسلمين بلا فرق، للقاعدة التي أشار إليها القرافي، وهي أن عقد الذمة بالنسبة لأهل الذمة كعقد الإسلام بالنسبة للمسلم، فما يوجب نقض الإسلام من الأفعال من جانب المسلم يوجب نقض الذمة والأمان من جانب غير المسلم، وما يوجب على المسلم عقوبة دون نقض الإسلام يوجبها كذلك على غير المسلم من غير أن ينقض عهده، وفي هذا القول تتم السيادة العامة للدولة على أفراد المجتمع فيها للمسلمين وغير المسلمين، ويخضع الجميع لأحكامه العامة، وتتحقق العدالة والمساواة في هذا الجانب على أكمل الوجوه الممكنة"(1)
مدلول لفظ الذمة :
يلاحظ أن بعض الناس – وخاصة من هم من أهل الكتاب – يرى في كلمة "ذمة" و "ذمي" و "أهل الذمة" انتقاصاً وامتهاناً وازدراء لمن يسمى بها، ويدل هذا على جهل بمدلول هذه الكلمة جهلاً ليس فيه شيء من معرفة باللغة العربية ومعاني كلماتها، وجهلاً ليس فيه شيء من معرفة بالنصوص الشرعية ومدلولاتها، لو عرف هؤلاء مالهذه الكلمات من مدلول في المفهوم الإسلامي الذي أوردته نصوص السنة والآثار، وعرفوا أن من وصف بهذا الوصف "ذمي" هو في حمى الله وجواره وعهده، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمانه، وفي أمان دين الله وشريعته لما نظروا هذه النظرة ولما رضوا أن يتخلوا عن هذا الذي يعني العهد والأمان والضمان والكفالة والحق والحرمة.
إنه درع يحتمي بها صاحبه من أي ظلم أو عدوان أو إهانة، لأن ظلمه أو العدوان عليه إنما هو عدوان على عهد الله وجواره، وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه.
يقول القرافي : "إن عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم، لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة الإسلام.(2)
(1) – (الدكتور علي الصوا – موقف الإسلام من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي – المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – مؤسسة آل البيت – سلسلة معاملة غير المسلمين في الإسلام – جـ1 – ص212 – 213 عمان – 1989م)
(2) – (القرافي – الفروق – جـ3 – ص 14)
وسوم: العدد 969