روسيا التي تمسك زمام المبادرة
لا بدّ أن تُدهشَ عندما تسمع الهجوم الذي تشنّه الإدارة الأمريكية على روسيا بسبب الحرب التي شنتها على أوكرانيا، وقد لا تصدق أذناك أو عيناك أو عقلك، كيف يخرج هذا الكلام على لسان أمريكا، وهي التي، كما في ذاكرة الجميع، شنت الحرب على العراق وأفغانستان واحتلتهما واستباحتهما.
ويجب أن تستغرب وتُدهش أكثر عندما تقارن ذلك المنطق بموقفها من كل حروب الغزو والإبادة البشرية التي شنّها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني وقطاع غزة، ومصر 1956، ومصر وسوريا والأردن 1967. والأنكى لو حاولتَ أن تعدّد الحروب التي شنتها أمريكا في تاريخها من الفلبين وعدد من دول أمريكا اللاتينية، وصولاً إلى كوريا وفييتنام. لذهلت لعددها الذي يزيد عن 150 حرباً.
وخلاصة كل كلمة تهاجم أمريكا فيها روسيا اليوم، يجب أن تتذكر بأنها تنطبق على ما فعلته ضدّ عشرات شعوب العالم، والدول ذات السيادة.
هذا ويجب أن تخرج بالانطباع نفسه، عندما تسمع ما تقوله وتفعله بريطانيا، ليس في مراجعة تاريخها الاستعماري فحسب، وإنما أيضاً، في دعمها لكل حروب أمريكا، كما تفعل الآن. وطبعاً هذا ينطبق على دول الغرب عموماً.
ولكن لندع كل هذا جانباً، ونتوقف عند الأزمة الأوكرانية الراهنة وعلاقة ما تقوله أمريكا وبريطانيا عنها، على الخصوص، فيما يتعلق بالقانون الدولي. وذلك باعتبار ما تفعله روسيا، فعلته بالضبط، أمريكا وإلى حد، مائة بالمائة.
تقول أمريكا إنه ليس من حق روسيا الاعتراض على الناتو أو أوكرانيا في موضوع ضمّها إلى الناتو، باعتبار أن ذلك يتماشى مع القانون الدولي إذ من حق كل من الدولتين السيدتين أن تعقدا بينهما الاتفاقات بما في ذلك العسكرية، ونقل الأسلحة والصواريخ إلى حدودهما.
في العام 1962 اتفق الاتحاد السوفييتي (خروتشوف) وكوبا (كاسترو) على توضيع صواريخ سوفييتية في الأراضي الكوبية. وذلك استناداً إلى ما يسمح به القانون الدولي الذي يعطي لدولتين سيدتين أن تعقدا اتفاقات عسكرية بينهما، وتتبادلا الأسلحة.
*ما تفعله روسيا اليوم هو بالضبط ما فعلته أمريكا في مسألة الصواريخ السوفييتية في كوبا. وهو عدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو وعدم زرع صواريخ على حدود روسيا، بما يمسّ الأمن القومي لروسيا بلا جدال، أو نقاش*
هنا طار صواب الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي الديمقراطي كينيدي، وأعلن أن ذلك يهدّد الأمن القومي الأمريكي. وهذا يعلو على أيّ قانون دولي. ولهذا فإن على الاتحاد السوفييتي التراجع فوراً. وإلاّ فإن أمريكا سوف تدمّر أيّة بارجة تحمل قطعاً من هذه الصواريخ، إلى كوبا (الدولة ذات السيادة)، ولو أدّى ذلك إلى اندلاع الحرب النووية التي لا تبقي ولا تذر. ولم يترك أحداً في العالم بأن يشك بجديته التي لن تتردد بإشعال الحرب العالمية الثالثة. أُشيع في حينه أن شخصاً قال لآخر، في الغد نلتقي أجابه إن كان هناك غد.
وهنا تراجع خروتشوف عن قرار نصب صواريخ في كوبا مقابل تعهّد أمريكا بعدم غزو كوبا واحتلالها. (كشف بعد 58 سنة أن صواريخ كانت مزروعة في تركيا تقرّر سحبها أيضاً).
بكلمة: ما تفعله روسيا اليوم هو بالضبط ما فعلته أمريكا في مسألة الصواريخ السوفييتية في كوبا. وهو عدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو وعدم زرع صواريخ على حدود روسيا، بما يمسّ الأمن القومي لروسيا بلا جدال، أو نقاش.
ولهذا كان يجب على أمريكا أن تعتبر بأن الأمن القومي للدولة الروسية يقع في المقدمة، ولا يُسمح بالمساس به، إلى الحد الذي لا يُحتمل، وإلاّ فتحت أبواب الحرب.
فهذا هو العُرف الذي سنّته أمريكا والغرب في حينه، وأصبح حقاً لكل دولة أن تمارسه، إذا استطاعت إلى ذلك سبيلا. هذا يوجب على أمريكا أن تحترم هذا العُرف. وتنسى القانون الدولي، حين يتعلق الأمر بالتهديد الجدّي للأمن القومي. فمن هنا فإن أمريكا هي المسؤولة عن إجبار روسيا على شنّ الحرب. وذلك عندما أمعنت في تطويقها بدول الناتو عبر دول أوروبا الشرقية، أو دول الاتحاد السوفييتي السابقة، وخصوصاً الأخيرة، وخصوصاً أوكرانيا بالذات.
ميزة القانون الدولي أنه حقٌ للجميع، وبالقدر نفسه، وإن كانت الدول الغربية هي التي أمعنت في انتهاكه. وراحت تعتدي وتتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ذات السيادة. فالعُرف الذي كرسته أمريكا لا يسمح لها بأن تعتبره حقاً حصرياً لها. ومن ثم بأيّ حق تأتي اليوم لتُدخل العالم في خطر، قد يتعدى حدود أوكرانيا، إذا ما تمّ تجاهل الأمن القومي لروسيا، أو لم يُستجب للرئيسي منه.
ولهذا يتوجب على حكومة كييف أن تتحلى بالحكمة، وأن تذهب للتراضي مع روسيا، على حلٍّ يُخرج أوكرانيا وأوروبا والعالم، من خطر لا تحمد عقباه.
ثم على أوكرانيا أن تتذكر حقيقتين تاريخيتين، وهما أن أراضيَ روسية، غير شبه جزيرة القرم، أعطيت لأوكرانيا، لتصبح دولة ذات شأن، في المرحلة السوفييتية (منذ عهد ستالين). الأمر الذي يوجب على أوكرانيا أن تبقى صديقة، وألاّ تنقلب إلى الضد، في الأقل، وتُستَخدَم لتهديد الأمن القومي الروسي. وهذا البُعد يجب أن يحسب حسابه، ولو من الناحية الأدبية.
*العُرف الذي كرسته أمريكا لا يسمح لها بأن تعتبره حقاً حصرياً لها. ومن ثم بأيّ حق تأتي اليوم لتُدخل العالم في خطر، قد يتعدى حدود أوكرانيا، إذا ما تمّ تجاهل الأمن القومي لروسيا، أو لم يُستجب للرئيسي منه.*
إن أمريكا وبريطانيا وبعض الغرب، يعتقدون أن من مصلحتهم، توريط روسيا في حرب روسية-أوكرانية طويلة الأمد والاستنزاف. ويحسبون أن روسيا لم تستعد بتفاهم مع الصين في مواجهة العقوبات والحصار والمخاسر الاقتصادية. وهو ما تأكد منذ سبعة أيام من الحرب؛ كما أثبتت الوقائع، وليس، وفق تقديرات مسبقة، أو أمانٍ. فمجريات هذه الحرب، حتى الآن، تدل على أن بوتين هو الذي يمسك زمام المبادرة سواء أكان من الناحية العسكرية، أم كان من ناحية مواجهة الأوضاع الاقتصادية، ومدى فعالية العقوبات على مجرى الحرب.
طبعاً الخاسر الأول حتى الآن هو الشعب الأوكراني، وحكومة كييف التي تنتظر تعليمات الخارج. أما الخاسرون الآخرون فأمرهم لاحق، وليس الآن.
وباختصار نحن الفلسطينيون والعرب والمسلمون وأحرار العالم: أين تقف أمريكا يجب أن نقف ضدها، ومن لم يقتنع فليراجِع التاريخ.
وسوم: العدد 971