القمة السداسية في النقب.. ما قاله بن جوريون عن العرب
بعد خمسة أيام من قمة شرم الشيخ بين مصر والإمارات وإسرائيل ، انعقدت قمة النقب بين وزراء خارجية هذه الدول الثلاث إضافة إلى وزراء خارجية أميركا والمغرب والبحرين . ولا أعرف لماذا سمي اجتماعهم في النقب أو بئر السبع قمة summit مع كونهم ليسوا رؤساء دول ، وقد تكون التسمية إسرائيلية قصد بها تضخيم أهمية الاجتماع الذي تصفه بالتاريخي ، وصرح رئيس وزرائها بينيت مبتهجا بأن " الإدراك يتزايد في العالم العربي بوقوف إسرائيل في خندق السلام والتعاون . " . وجدول قضايا القمة الثانية هو جدول القمة الأولى : احتمال تجديد الاتفاق النووي الإيراني ، ورفع أميركا اسم الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب التي تصنف فيها الدول والمنظمات وفق هواها المعوج الفاسد ، وتدارس كيفية مواجهة الأخطار التي تهدد دول هؤلاء الوزراء ، وذكرت قناة " كان " الإسرائيلية الرسمية أن لابيد وزير الخارجية الإسرائيلي طرح على وزراء الخارجية العرب إمكانية إنشاء حلف إقليمي لمواجهة الأخطار التي " تهدد " دول أولئك الوزراء وإسرائيل . وأكبر هذه الأخطار مصدرها إيران والمقاومة في لبنان وفلسطين واليمن ، وكلها في الأصل والحق أخطار مهددة لإسرائيل وحدها ، ولكنها ، إسرائيل ، سحبت هذه الدول إلى مربع ألأخطار التي تهددها ، وهذا انهيار وطني وقومي تاريخي لهذه الدول . وهناك دول عربية غابت عن القمة إلا أنها حاضرة بانتمائها لهذا الانهيار ، وسيرسل إليها كل ما اتفق عليه الوزراء الستة ، أو الأرزاء الستة . وفي البدء تقرر عقد القمة في القدس ، ويظهر أن إسرائيل تخوفت من انفجار مظاهرات ضدها هناك ، فنقلتها إلى النقب . ونستبعد أن يكون وزراء الخارجية العرب الأربعة أو دولهم تحشمت بعض التحشم ، واقترحت على إسرائيل نقلها إلى مكان آخر . لا هؤلاء الوزراء ولا دولهم يمتلكون فضيلة هذا التحشم ، وإسرائيل لن توافقهم عليه لو صدف واتصفوا به هم أو دولهم ، وهي ترى في القمة الأولى في شرم الشيخ والقمة الثانية في النقب آية جلية ساطعة على صيرورتها رقما كبيرا مهما في المنطقة ، والرقم الكبير المهم لا يتنازل للأرقام الصغيرة المعدومة الأهمية مثل الوزراء العرب الأربعة ودولهم . وإسرائيل في الحق لم تتخل عما تريده من رمزيات بنقل الاجتماع من القدس إلى النقب ، وهي الرمزيات الخطيرة التي لم يفطن لها الوزراء الأربعة ولا دولهم ، ولو فطنوا لها ما اهتموا بها . ومن هذه الرمزيات أن النقب الآن مدار معركة مصيرية حامية دامية على الأرض بين أهله العزل وإسرائيل المعتدية المنهومة بالاستيطان للاستيلاء على ما تبقى من أرض في أيدي أهل النقب . وقررت بناء 14 مستوطنة فيه لتسكين من يهاجر إليها من يهود أوكرانيا ، وكونت " سرية بارئيل " الأقرب في نوعية أعضائها ووسائلهم إلى بلاك ووتر . إنهم عصابة لا قانون سيضبطها ، وسيتفوقون في انفلاتهم وقسوتهم ضد أهل النقب على دولتهم التي تعاملت دائما مع الفلسطينيين بعقلية العصابة وإن حاولت تلوين تعاملها معهم بصيغ قانونية كأن تسمح لهم بعرض قضاياهم ومشكلاتهم معها على المحاكم الإسرائيلية التي يندر أن تحكم لصالحهم ، وإذا حكمت في هذا النادر تتلكأ الأجهزة التنفيذية الإسرائيلية في تنفيذه . ومن رمزيات النقب التي اهتمت إسرائيل باصطيادها أن القمة عقدت فيه وأهله يتهيئون مثل بقية الفلسطينيين للاحتفال بيوم الأرض في الثلاثين من مارس الجاري ، وركل وزراء الخارجية العرب هذه الرمزية مع دولهم ، والظن الصائب أنهم لا يعرفون عنها أي شيء . واهتمت إسرائيل بكسب رمزية أخرى من هؤلاء الوزراء الذين تقودهم إسرائيل في القمة من أنوفهم السلسة الانقياد ، فقررت لهم زيارتهم لقبر بن جوريون أول رئيس وزراء لها ، والمنعوت بالنبي اليهودي المسلح ، والذي اعتزل في سديه بوكير ( وادي البقر بالعبرية ) بعد أن فارق الحياة السياسية ؛ معتزما تقديم قدوة عملية للمستوطنين اليهود في السكن في المناطق البعيدة عن المراكز الحضرية السهلة الناعمة المعيشة ، ولنا تخيل حال النقب حضريا في الستينات وقت اعتزاله ، وقد سار في سكناه فيه مسار رواد الاستيطان الأوروبي في أميركا في مستهل القرن السادس عشر وما تلاه حين كان بعض المستوطنين يستهدفون تقديم قدوة للآخرين منهم ، فيقصدون القفار البعيدة الموحشة حيث انعدام وسائل المعيشة المناسبة والأخطار المحدقة من كل لون ومفاجأة . وكتبت شخصيا أكثر من مرة مطالبا بدراسة الاستيطان الأوروبي في أميركا لفهم الاستيطان اليهودي في بلادنا ، فبين الاستيطانيين تطابق تام في القناعات والخطوات والمصطلحات ، ونتمنى ألا يحدث تطابق في المآلات ، فتكون إسرائيل في المنطقة العربية في قوة أميركا وراء الأطلسي أو العالم الجديد مثلما سماه المستوطنون الأوروبيون مبكرا ، نقيضا موازيا لعالمهم القديم الطافح بالفقر والاضطهاد المذهبي الديني . ومن رمزيات النقب أن المشروع الصهيوني انتبه إليه في مخططاته المبكرة ليكون جسر صلة بينه وبين أفريقيا وآسيا ، وحين وافق بن جورويون على مشروع التقسيم الدولي في 29 نوفمبر 1947 احتج بعض القادة اليهود لموافقته على مشروع يجعل النقب جزءا من الدولة العربية أو الفلسطينية ، فطمأنهم بأن النقب في البال ، وتحققت طمأنته لهم حين انتزعته إسرائيل في أكتوبر 1948 من القوات المصرية ، واستولت بعد انتزاعه على أم الرشراش المصرية ، وأقامت ميناء إيلات الذي فتح طريقها بحريا على آسيا وأفريقيا ، وتوالى الانفتاح فطال دولا عربية في حمى التطبيع العلني ، ولا ريب أنه طال هذه الدول من قبل سرا . قمة شرم الشيخ وقمة النقب تماهٍ كامل مع رؤية إسرائيل لكل أحوال المنطقة حاضرا ومستقبلا ، وتهيئة لتتويجها ولية أمر لدولها ، والتماهي والتولية يحدثان في زمن ليست فيه إسرائيل في عز قوتها ، وإنما في عز انهيار الأنظمة العربية ، وانحدارها بعيدا بعدا كليا عن عواطف شعوبها ومصالحها الحقيقية . ما من شعب عربي يرضى عن القمتين ، وما من شعب عربي يدرك بأن إسرائيل " تقف في خندق السلام والتعاون " بمفهومهما العادل القويم . السلام في مفهوم إسرائيل هو الاستسلام العربي ، والتعاون في مفهومها هو التعاون على الإثم والعدوان ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وإيران وكل من يستنكر آثام إسرائيل وعدوانيتها . ومن شواهد ضعف إسرائيل جريها بين السلطة الفلسطينية وعمان والقاهرة لمآزرتها في وأد أي انتفاض شعبي فلسطيني عليها في رمضان القريب . وتتناغم الأطراف العربية الثلاثة معها في مسعاها ، ولا تطلب منها الكف عن استفزازها في الأقصى والحرم الإبراهيمي ، ولا نقول في الاستيطان . لا يطلب أي طرف من الثلاثة منها وقف اقتحام المستوطنين للأقصى الذي سمحت لهم به في رمضان ، ويستجيبون لما تطلبه في أريحية وطواعية سهلتين سخيتين ، ويحذرون الشعب الفلسطيني من استفزازها وإغضابها ، وتضغط مصر على المقاومة في غزة للابتعاد عن هذا الاستفزاز وهذا الإغضاب ، وزارها سرا غسان عليان منسق أعمال إسرائيل في الضفة وغزة لهذه الغاية .وغسان الدرزي كان قائد لواء جولاني في عدوان 2014 على غزة ، وجرح في رأسه ، وسحب من القتال ، وعولج وأعيد لقيادة لوائه ، ولو زار دولة أوروبية لقدمت طلبات لمحاكمته بصفته مجرم حرب متمرسا في إجرامه . وشاهد ثانٍ على ضعف إسرائيل وانحطاط سمعتها عالميا هو اتساع وصفها بالعنصرية المتوحشة الفظة من جهات برلمانية وسياسية وإعلامية وأكاديمية ، وأنها بعيدة كليا عن الصورة النقية المثالية الديمقراطية الإنسانية التي زعمتها دائما لذاتها . والأنظمة العربية التي عقدت معها قمتين متواليتين في خمسة أيام ، والأنظمة التي تطبع علاقاتها معها ؛ كلها تعينها على ستر ضعفها وإظهار عربدتها وتسلطها ، وعلى تنقية صورتها العنصرية السوداء وإزهائها . إنها تقدم لها حلولا جاهزة مجانية لمشكلاتها وأزماتها ، وهذا موقف تاريخي من الأنظمة العربية توسع وتعمق ، واتخذ أقبح وأفضح تبدياته بعد خماسين الربيع العربي ، ومبكرا عبر بن جوريون عن هذا الموقف العربي المخزي المدمر للأمة بقوله : " حين نقع في مشكلة يحلها لنا العرب . " .
***
" سيأتي اليوم الذي يفيق فيه العرب على حقيقة أن أبناءنا هم الذين يحكمونهم . " جولدا مائير رئيسة وزراء السابقة ، الأوكرانية أولا ، والأميركية ثانيا بهجرتها إلى ميلووكي ، والإسرائيلية آخرا بهجرتها إلى بلادنا في مطلع القرن العشرين .
***
زلزلت عملية الخضيرة إسرائيل بقتل اثنين من مستوطنيها ، وجرح اثني عشر ، وسحقت روحها سحقا معرية وهن هذه الروح ، وشلت بهجتها بالقمة السداسية ، وقذفت بها في مأتم وعويل . والخضيرة ورحوبوت من أولى المستوطنات الصهيونية في فلسطين التي أنشأها يهود آتون من روسيا في أواخر القرن التاسع عشر، واستقدموا لإنشائها مئات العمال من مصر والسودان ، مات منهم عشرات في تجفيف مستنقعاتهما .
***