السهل المستصعب في الإكتفاء الذاتي والإستقلال السياسي
يتعاطى أرباب السياسة والحكم في احاديثهم العامة وفي وسائل الإعلام والإتصال مفردات غير قليلة لها أن تعكس واقع حالهم وتفكيرهم ومخططاتهم ومشاريعهم لإدارة الحزب او السلطة، بما تجعلها أقرب إلى مشاعر الحزبيين أو عموم الناس، ولطالما يحرص السياسي الطامح إلى سدة الحكم على اختيار المفردات السياسية المثيرة للإهتمام والتي لها أريحية في نفوس المجتمع، بغض النظر عما إذا كانت هذه المفردات قابلة للتطبيق على أرض الواقع قطريا أو إقليميا أو دوليا، وعما إذا كان المتحدث فرداً أو حزباً أو تياراً أو إئتلافاً يمتلك كامل ادوات تطبيق المفردة أو بعضها، وعمّا إذا كانت لديه الخبرات والافراد الذين لهم القدرة على تحويل المفردة إلى واقع حال، فيرضي جمهوره، على ان الطموحات في إدارة دفة الحكم في أي قطر أمر مشروع ولا غبار عليه من أي إنسان يعيش على تلك البقعة من الأرض.
ومن تلك المفردات هي "الإستقلالية" في زمن التبعية والخضوع للقوى الإقليمية والدولية التي نشهدها في كثير من البلدان إن كان في العالم الثالث أو في العالم الغربي على السواء، لأن التبعية وبالتجربة والبرهان لا تقتصر على بلدان العالم الثالث في آسيا وأفريقيا، فهي تشمل حتى عدد من الدول الغربية التي ينظر إليها البعض نظرة احترام كونها محصنة بالديمقراطية وبتبادل السلطة بشكل سلمي، ولكنها في القضايا الإقليمية والدولية تظهر فيها التبعية لقوى أكبر تجرها معها حيثما تريد لا مع ما يريده المجتمع.
ولا يخفى أنَّ المفردة وتثبيت أوتاد خيمتها في أرض صلبة لكي يأمن من يستظل بظلها، ليس بالأمر الهيِّن حتى وإن تشبع المواطن بثقافتها لكثرة ما ترد على ألسنة الساسة وفي وسائل الإعلام، ولو كانت سهلة لما شهد العالم الحروب الموضعية والإقليمية والعالمية، ولما شهدنا ونشهد المجاعات المفروضة والمفتعلة، ولما شهدنا الكثير من الإحتلالات للبلدان والإنسان.
فالإستقلالية إذن أمر على غاية من الأهمية، إن كان على المستوى الفردي أو الجمعي أو الأمة بكاملها، ولذلك لابد من توفير عواملها في الفرد وفي الأمة والوطن بالقدر الذي يجعل الأمة قادرة على أن تفتخر بين الأمم بأنَّها تملك مفتاح إرادتها واستقلالها، ولها إمكانية مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية والدولية وتكون موضع مهابة لدى من يفكر أن يطمع بها.
حوار البناء الذاتي
هذه المفردة وعواملها كان محور الحديث الذي جمع سفير جمهورية العراق في المملكة المتحدة والمرشح لرئاسة الوزراء السيد محمد جعفر الصدر بالمحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي صاحب أكبر موسوعة معرفية حتى الآن (دائرة المعارف الحسينية) في العاصمة لندن صباح الخميس 14/11/2019م في المركز الحسيني للدراسات، وقد تحول هذه الحوار إلى مشروع كتاب أهداه المحقق الكرباسي إلى السيد الصدر كمشروع تنظيري عملي وتجريبي للإكتفاء الذاتي في لقاء أبوي ثان جمعهما في مكتب السفير بلندن صباح الأربعاء 1/9/2021م، وحتى يكون المشروع في متناول أصحاب الشأن صدر حديثا هذا العام 2022م في 103 صفحات من القطع المتوسط عن بيت العلم النابهين في بيروت كتاب: "الإستقلالية عبر الإكتفاء الذاتي .. العراق نموذجاً: وقد قدَّم له السفير السيد محمد جعفر الصدر وعلًّق عليه الدكتور نضير الخزرجي الذي كان قد حضر اللقاءين.
وحيث حرر الكرباسي الكتاب فإن الصدر قدّم له بكلمة قصيرة قال فيها: (لقد خصَّني سماحة آية الله المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي بإهدائي هذا السفر الثمين، وقد أنعمت النظر فيه، فوجدته حاوياً لنفائس اللؤلؤ والمرجان المُستخرجة من بحار علم أئمة الهدى والرشاد عِدل كتاب الله وتُرجمانه وخلفاء الرسول الأكرم الأعظم وأمناء الرسالة صلوات الله عليهم، استخرجها غواص نحرير، جمع العلمَ والعمل والخُلُق السامي، وصاغها حُليًّا مسطَّرة ومطعَّمة بأحسن ما وصلت إليه التجربة الإنسانية الخيرة من فكر وعمل).
مستلزمات الإستقلال
حرص المؤلف على أن يلحق بعنوان الكتاب عبارة "العراق نموذجا"، في إشارة منه أنَّ تحصيل عامل الإستقلال عبر توفير مستلزمات الإكتفاء الذاتي لا تنحصر بالعراق فهو مصداق لكل بلد وأمة تعمل جاهدة على تحصين نفسها بالإكتفاء الذاتي، فلا تكون عندها مضطرة إلى ربط مصلحتها بمصالح القوى الإقليمية أو الدولية.
تابع الكتاب الإنسان كمحور أساس في هذا العالم منذ النشأة، متجاوزاً اللون والمعتقد والجنس مادام الوطن هو الذي يضم الجميع في بوتقته، ولهذا فإنَّ نصوصاً خمسة جلبت انتباه الفقيه الكرباسي وهو يحرر الكتاب، الأول: قوله تعالى: (إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، الثاني: قول نبي الرحمة محمد (ص): (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، الثالث: بيت شعر منسوب للإمام علي (ع) من بحر البسيط: الناس من جهة التمثال أكفاءُ ... أبوهم آدم والأمُّ حوّاءُ، الرابع: قوله عليه السلام أيضا وهو يخاطب الآخر: (الناس صنفان إمّا أخٌ لك في الدين أو شبيه لك في الخلق)، والخامس: قول الإمام الحسين (ع) وهو يخاطب خصمه: (إنْ لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم).
ولأنَّ الإنسان هو الأصل، فلا خير في رفع قواعد البنيان وزيادة العمران الأفقي والعمودي من غير النظر الى عمارة الإنسان نفسه، فالعمران بلا روح كالجسد بلا روح، وروح الإنسان العامرة هي المقدمة الضرورية لسلامة إستقلال أي بلد أو طن، ولها أن تتحدى الصعاب وتتجاوزها وتعمل على تحقيق مستلزمات الإكتفاء الذاتي حتى يتخلص البلد من ربقة التبعية ويكون سيد نفسه، على أن العمل غير التنظير، وهو بحاجة إلى مجاهدة كبيرة وتضحيات جسيمة.
عوامل الإكتفاء الذاتي
عاش المؤلف في بلدان شرقية أربعة هي العراق وإيران ولبنان وسوريا، قبل إلى أن تضطره الظروف السياسية والأمنية الهجرة إلى المملكة المتحدة، ووجد أن صراع الإنسان في بلدان الشرق من أجل الإستقلال والحياة المطمئنة هو مدار الحياة، من هنا فإنه:
ناقش في مطاوي عناوين الكتاب مفهوم الوطن والوطنية، والتي تعني عنده السعي والعمل لتثبيت في الذات الإنسانية مفاهيم: اللاقومية، واللامناطقية، واللاطائفية، واللامذهبية، واللاعنصرية.
وناقش عامل الإقتصاد والعلاقة مع السياسة والأمن والإعلام، ووجد أن: (الإقتصاد بالتحالف مع السياسة والأمن والإعلام بات هو المحور الأساس وقُطب رحاها بعدما كانت هي في خدمة السياسة والأمن والإعلام، والآن أصبح ذلك الثلاثي في خدمة الإقتصاد)، مؤكداُ أنَّ: (الإستقلال الواقعي لا يتحقق إلا بالعودة إلى الإقتصاد الإنتاجي وتطويره).
وناقش عامل الإنتماء ومتعلقاته الرسمية من أوراق ثبوتية، مشددا على الدستور في صيانة الإنسان وحفظ كرامته وانتمائه وعدم إسقاط الجنسية، وعدم التمييز بين المواطن والمغترب والمهاجر الذي ترك الوطن لأسباب سياسية واقتصادية ودراسية، والمساواة بين أبناء البلد وعدم تصنيفهم إلى درجات تقلل من شأن الإنتماء الوطني وتنزع عنهم وازع الإنشداد إلى الوطن والدفاع عنه في الملمّات.
وناقش عامل التخصص، وأهمية تحقيق الإختصاصات للنهوض بواقع البلد، ووضع الإنسان المناسب في الموقع المناسب لاعتبارات التخصص والتميز لا للإعتبارات الحزبية والمناطقية والفئوية والقومية والمذهبية وأمثالها.
وناقش أهمية حس الجوار لصيانة البلد والجيران بما يساعد على تقليم مخالب القوى الكبرى التي تريد أن تستفرد بهذا البلد أو ذلك.
وعلى مستوى الإقتصاد الداخلي ناقش مسألة التوظيف وحدود الإعتماد عليه، ووجد أنَّ: (من الضروري أن تكون للشعب موارد مختلفة، يعتمد فيها على نفسه أكثر مما يعتمد على الدولة في إطار التوظيف، بل لا بد أن تكون الدولة داعمة لاستقلالية الشعب لنفسه بعيداً عن التوظيف ليكون التوظيف آخر فرصة له أو هو أحد السبل الضعيفة للحصول على العيش لتكون الدولة بحاجة إلى التوظيف دون العكس).
وناقش عامل التشاور والتحاور بين الأمة بأطيافها المختلفة، وبين الأمة والسلطة القائمة، بما فيها خدمة الوطن.
وناقش عامل المعرفة وعلاقته بالعمل والإنتاج وتحقيق مفهوم الوطنية السليمة باعتبار أنَّ: (المعرفة هي البوابة الوحيد للإتحاد أو عدم الإختلاف على أقل التقادير، بل هي الأمان للعيش المشترك وعدم التناحر، ولأنَّ المعرفة هي السبيل الوحيد إلى التثقُّف والتبصُّر في كل الأمور التي من شأنها أن تكون ضرورة حياتية لكل فئة من فئات المجتمع مهما اختلف لونها وصبغتها).
وناقش عامل الإنتخابات والإستفتاء، داعياً إلى أهمية النزاهة وحرمة المال المسيَّس واعتبار الوطن كله دائرة واحدة، ومشاركة الجميع دون تمييز بما فيهم الصغير والقاصر عبر وليه.
وناقش مسألة الضرائب، مشدداً على أهمية الإستفادة من موارد البلد دون الضرائب، واعتماد الأخيرة كآخر الحلول وبقدر: (وذلك عند نقص موارد الدولة على الدخل فقط دون غيره بشكل متوازن).
وناقش مسألة الحقوق وما يقابلها من واجبات والعلاقة بين المواطن والسلطة في تحقيق التوازن بين الحق والواجب وعدم تسييسهما لمصلحة فئة دون أخرى.
وناقش أهمية القضاء في حفظ القانون ورعاية شؤون البلد واستقلاله عن السلطات التنفيذية والتشريعية.
وناقش توفير فرص العمل لكل مواطن بعيداً عن الإعتبارات التي تقف عائلاً مع إنسانية الإنسان ووطنيته، وضرورة إستغلال الأرض بالزراعة والصناعة والسكن والعمل، وضرورة استغلال الثروات المختزنة في الأرض، من أجل تحقيق الإكتفاء الذاتي على مستوى المواطن والوطن.
وناقش أهمية السياحة في زيادة الدخل والثروات، وتشغيل الأيدي العاملة وتقديم صورة طيبة للسائحين، بخاصة في بلد مثل العراق الذي يضم مراقد مقدسة كثيرة فضلا عن المواقع التاريخية والتراثية والاستجمامية.
وناقش واقع الصحة في سلامة المواطن، وتحصين البلد من الأوبئة والأمراض.
وناقش أهمية القانون في تنظيم حياة المجتمع في جميع الإتجاهات ورعايته بأكمله لضمان الحقوق والواجبات، وهو الركن الركين لأي بلد ينشد الإستقلال وسعادة أبنائه، كون القانون سيفاً ينتصر للمظلوم ويحمي مكتسبات الوطن.
وشدد المحقق الكرباسي في النهاية على الإعلام الذي اعتبره هو الأول والآخر الذي ينبغي توجيه بوصلته بصورة سليمة لما فيه سعادة الإنسان وسلامة الوطن ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
ورغم أنَّ الكتاب تناول العراق نموذجا لنشدان الإستقلال عبر توفير عوامل الإكتفاء الذاتي، فإن المؤلف ختم رؤاه: (بالتمنيات لأنْ يعيش سكان هذا الكوكب جميعهم بأمان وسلام وتفاهم ووئام بعيداً عن الحروب والأسقام بحق خالق الأنام حتى حلول يوم القيام)، فيما ختم السفير الصدر التقديم بالتأكيد: (إنَّ تحليق البشرية في رحلتها نحو سماء الكمال بإحقاق واجب الإستخلاف لن يتحقق إلا بجناحين يكمل أحدهما الآخر وهما: الإنسانية المتخلقة والعلم النافع الخيِّر، ويقدّم هذا السِّفر اجتهاداً رصيناً لتحقيق التكامل المنشود).