قابلية المحكومين للاستخفاف بهم توطيد لاستبداد الحكام
من المعلوم أن الله عز وجل ضمّن رسالته الخاتمة الموجهة إلى لعالمين والمنزلة على سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إشارات إلى كل ما عرفته البشرية من أحوال ،وإلى كل ما ستعرفه إلى قيام الساعة، خلافا لما يزعمه بعض المشككين في مصداقيتها من أنها رسالة أدت وظيفتها في زمن معين ، وانتهى أمرها .
ومن تلك الأحوال التي تضمنتها الرسالة الخاتمة حال استبداد الحكام بمحكومين لهم قابلية للخضوع لاستبدادهم ، وكان التمثيل لذلك باستبداد فرعون وخضوع قومه له كما جاء في قوله تعالى في سورة الزخرف:
(( ونادى فرعون في قومه قال يا قومي أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعون إنهم كانوا قوما فاسقين ))
ولم يكتف فرعون في استخفافه قومه بذكر ملكه لمصر و امتلاكها أنهارها الجارية ، وعلو شأنه ، وفصاحة لسانه ، وأساورته الذهبية، بل ذهب بعيدا في ذلك كما نقل خبره القرآن الكريم في قوله تعالى : (( فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى )) ،وقوله تعالى وقد استصغر شأن قومه : (( قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد )) .
وما ذكر الله تعالى هذا النموذج من الاستبداد الفرعوني إلا لتنبيه البشرية بأنه سيتكرر إلى قيام الساعة ، وإن اختلفت عصوره ،وأشكاله، وأساليبه ، وستظل مقولة فرعون هي ما يردده كل حاكم مستبد سواء كان ذلك تصريحا أو كان تلميحا ، ولو أن مقولات الحكام المستبدين عرضت للتأمل فيها لما خرجت عن مقولة فرعون التي فيها اعتداد بالسلطان ، وبالتميّز عن المعارضين له، واحتقارهم ،والتعالي عليهم ، والوصاية على من يستخفهم ممن يحكمهم بذريعة سداد رأيه ورشاده .
ولو شئنا أن نسقط هذا النموذج على واقعنا المعيش ، وتحديدا في عالمنا العربي لوجدنا أمثلة له ماثلة للعيان ،سنكتفي بذكر أربعة منها، اثنان في مغربنا العربي ، واثنان آخران في مشرقنا العربي .
أما المثال الأول فهو استبداد من يحكمون الجزائر من جنرالات الجيش الذين يقدمون في الواجهة رئيسا صوريا ينفذ ما يملونه عليه ، وهم بدورهم يأتمرون بأوامر قوة أجنبية منها محتل الأمس. ودون الإطالة في الحديث عن هذا النموذج من الاستبداد، سنركز على كيفية استخفاف من يحكمون الجزائر استبدادا بالشعب الجزائري ، ليس كل الشعب لأن غالبيته خرجت ولأكثر من سنتين كل جمعة معبرة عن رفضها لاستبدادهم مطالبة بديمقراطية حقيقية لا صورية . أما كيفية استخفافهم بالشعب، فهي المتاجرة بثورته على المحتل الفرنسي، وكأنهم صنّاعها وقادتها، وهم مجرد عظاميون لم يكونوا منها في عير ولا في بعير بل منهم من خدم في الجيش المحتل حتى إذا حان وقت جلاء الاحتلال، سارعوا إلى الانتساب الكاذب للثورة ، والحقيقة أن المحتل أعدهم لحكم الجزائر كي تستمر هيمنته على الجزائر، وعلى خيراتها ومقدرتها بعد رحيل جيشه وهو الذي كان يحلم بأن تكون جزءا من أرضه جنوب البحر الأبيض المتوسط ليحتفظ بها كما هو حاله في بعض مستعمراته السابقة إلى اليوم .
ومعلوم أن استخفاف جنرالات الجيش المستبدين بالشعب لا يختلف عن الاستخفاف الفرعوني، والسين والتاء للمبالغة كما يقول اللغويون، وهو احتقار واستهزاء بالعقول، واستنقاص من رجاحتها ،واتزانها، وصواب تفكيرها إلا ما معنى أن يخرج الشعب لو لم يكن راجح العقل مطالبا بحقه في ديمقراطية حقيقية عبر صناديق الاقتراع الزجاجية الشفافة لاختيار من يحكمه ، رافضا من لا يرضاه ، ولا يقبله حاكما . والاستخفاف بهذا الشعب يتمثل في تدغدغة مشاعره الوطنية بقدح زناد نخوة ماضي الكفاح ضد المحتل ليظل حبيس عظامية لا يفكر في عصامية أبدا .
ولا زال حكام الجزائر يرتزقون بدماء الشهداء إلى يومنا هذا ، ويوهمون الشعب بأن الشعب الشقيق غرب بلاده الذي شاركه ثورة تحريره لا تختلف عداوته عن عداوة المحتل الفرنسي بالأمس . ومن السخرية أن يستغل دمية العسكر المفروض على الشعب قرب حلول مناسبة استقلال الجزائر ليقحمها في مناسبة تنظيم الألعاب الأولمبية، فيلقي في روع الشعب مستخفا به أن البطولة في اللعب لا تختلف عنها في الجد مستغلا عشق هذا الشعب للرياضة ، وهو الذي سبق له أن هنأ فريق كرة القدم على الفوز على فريق البلد الشقيق الجار تهنئة بعدد شهداء ثورة التحرير عبر حسابه على التويتر ، فهل يوجد استخفاف بشعب أحط من هذا، وهو الشعب الذي يصطف يوما في طوابير طويلة لاقتناء نصف لتر من لبن أو قرص خبز ،وأرضه تحتها كنوز من غاز وبترول تجعله يعيش في رغد العيش وكنف الرفاهية ؟ وهو يخدع بعبارة : " تحيا الجزائر " التي كان لها معنى يوم كان الكفاح ضد المحتل ثم صارت بعد ذلك وسيلة استخفاف بالشعب تصرفه عن مطلبه الأساسي الذي هو ديمقراطية حقيقية في ظل عيش كريم ورخاء لا ديمقراطية صورية تبيع الأحلام مع البؤس والغلاء . وقبل يومين فقط كان فريق كرة القدم الجزائري يخوض مباراة ضد نظيره الفرنسي ، وكان الواصف الرياضي وبإيعاز من النظام المستبد يهيّج مشاعر الحاضرين والمشاهدين بتكرار اسم الشهيد زبانة الذي أطلق على الملعب في مدينة وهران ، ووصفه الرياضي يعود بذاكرة الشعب إلى أيام الاحتلال ليوهمه بأن الأمر يتعلق بمعركة حقيقية لا بمباراة في كرة القدم، ومن سوء حظه أنه خسرها . وليس مثال هذا الواصف إلا نموذجا من أمثلة أخرى لإعلام مأجور يوظفه الحكام المستبدون ليظل الشعب الجزائري مستخفا به يوطد قبوله بذلك لاستمرار الاستبداد .
وأما المثال الثاني للاستبداد في المغرب العربي ، فهو مثال الرئيس الذي انتخب ديمقراطيا في تونس ، فانقلب على الديمقراطية ، وصار مستبدا على شاكلة سابقيه الهالكين ، وقد ذهب بعيدا في الاستخفاف بالشعب التونسي الذي فاجأه هذا المستبد الجديد عابثا بثقته به ،فعطل المسار الديمقراطي بحل البرلمان الذي اختاره أيضا الشعب بإرادته كما اختاره هو رئيسا بإرادته ، ومن السخرية بهذا الشعب أن يتبجح الرئيس بثقة الشعب وهو عابث وغادر بها ،وكأن الثقة التي وضعها هذا الشعب في البرلمان تختلف عن الثقة التي وضعها فيه . ولقد تعددت أشكال استخفاف هذا الرئيس بالشعب التونسي منها تخويفه من المؤامرات الداخلية والخارجية ، واتهام خصومه السياسيين على اختلاف مشاربهم بالفساد والخيانة والتخابر من أعداء وهميين في الخارج ، حتى انتهى به الأمر إلى ادعاء أنه مهدد بالتصفية ، وهو يريد بذلك أن يربط تصفيته بزعزعة أمن واستقرار البلاد . ومما شجعه على تماديه في الاستخفاف بالشعب بطانة مأجورة وذات مصالح تحيط به كبطانة فرعون تقره على استبداده ، وإليها يتوجه بكلامه في كل مناسبة من أجل الاستخفاف بالشعب الرافض له ولحكمه ، وهو يردد ما يسد مسد مقولة فرعون (( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد )) وأي رأي لهذا المستبد ، وأي رشاد له ؟ ولاشك أن الرضا باستخفافه هو ما يوطد لاستبداده ، ويطيل عمره .
أما المثال الثالث فهو استبداد المنقلب على الديمقراطية والشرعية في مصر انقلابا عسكريا دمويا ، ودون الخوض في ظروف انقلابه ، نركز على أساليب استخفافه بالشعب الرافض له حيث يطيل باستمرار خطاباته التي لا تخرج عن مقولة فراعنة سبقوه إلى الاستبداد في أرض مصر قديما وحديثا ، ولا فائدة من تكرار تلك الأساليب التي صارت موضوع تندر وسخرية الرأي العام المصري والعالمي أيضا ، ولا شك أيضا أن استمرار استبداده إنما يوطد له سكوت و قبول الشعب المصري باستخفافه .
وأما المثال الرابع فهو استبداد ديكتاتور سوريا الذي ضرب أسوأ مثال في الاستبداد والظلم ، وقد أهلك العباد ودمّر البلاد ، وذهب أشواطا بعيدة في الاستخفاف بالشعب العربي السوري الذي هاجر معظمه خارج الوطن، ولم يبق فيه إلا بطانة عشيرته تحيط به وتمجد استبداده وقد ارتبطت مصالحها ببقائه في السلطة مستبدا ، وهو يخطب فيهم في كل مناسبة مستخفا بهم ، ورضاهم باستخفافه إنما يطيل عمر طغيانه ويوطد له .
هذه نماذج من أمثلة استخفاف الاستبداد بالمستبد بهم ، وما هي سوى صورة لاستخفاف الفرعون الذي قصه على البشرية رب العزة جل جلاله في كتابه الكريم ليكون عبرة لهم ، ولينبههم إلى أن طاعة كل حاكم مستبد ومستخف بمحكوميه هو دليل فسوقهم إذا ما رضوا بذلك كما كان حال قوم فرعون .
وسوم: العدد 987