اغتيال الظواهري.. دماء في طاحونة السياسة الأمريكية
لن تفوّت القصة الاستخباراتية الأمريكية المسحة السينمائية لاغتيال زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري. كلّ العناصر السينمائية الأمريكية متوفّرة؛ رجل يقف على شرفة بيته في العاصمة الأفغانية كابل، في طريق المشهدية الواسعة إليه رجال بالزيّ الأفغاني، بعضهم يحمل بندقية الكلاشينكوف الشهيرة، ونساء منتقبات على النمط الأفغاني الذي استهوى الدعاية الاستشراقية الأمريكية في خدمتها لغزو أفغانستان وترويجها لأفغانستان قبل وبعد. في الأثناء، الرئيس الأمريكي يسأل عن التفاصيل، عن درجات الحرارة، ومخطّط البيت، وسكّانه من المدنيين، ثم يعطي أوامره باغتيال الرجل الواقف على الشرفة في كابل. فجأة صاروخ مزود بسكاكين يمزّق ذلك الرجل دون خسائر جانبية!
الطائرات المسيّرة تُلهم المخيال السينمائي الأمريكي أكثر. يبدو الأمر متداخلاً مع كون مهمّاتها تشبه ألعاب الفيديو، واصطياد الناس عن بعد، وقدرتها على تنفيذ العمليات الدقيقة بخسائر جانبية أقلّ، كما في الدعاية الأمريكية وتعبيرها عن القدرة الأمريكية الاستثنائية.
ستكون الطائرات المسيّرة "بطلة" أفلام حربية أمريكية، حتّى تلك التي تبدو وكأنها تطرح أسئلة فلسفية أخلاقية، مثل فيلم "Outside the Wire" الذي بثّته "نتفليكس" رقميّاً العام الماضي. هل تنقذ 38 جنديّاً في ساحة المعركة بصاروخ "هيلفاير" يجهز على خطر محدق، ولو على حساب جنديين ثمة احتمال لإنقاذهما، أم تغامر بالجنود كلّهم لإنقاذ الجنديين؟ البرود الكامل في مظهر "هارب" قائد الطائرة المسيّرة وأدائه، لا يعكس إحساسه بالمعضلة الأخلاقية، كما حاول الفيلم القول، فالذي يقتلكم من خلف الشاشات لديه حسّ أخلاقي يختبئ خلف برود تحتاجه طبيعة المهمّة!
الطائرات المسيّرة تُلهم المخيال السينمائي الأمريكي أكثر. يبدو الأمر متداخلاً مع كون مهمّاتها تشبه ألعاب الفيديو، واصطياد الناس عن بعد، وقدرتها على تنفيذ العمليات الدقيقة بخسائر جانبية أقلّ
الملازم "هارب" الذي اختار مخالفة الأوامر وعدم المغامرة بمجموع الجنود، يعاقَب بإرساله من قاعدة "كريتش" الجوية في نيفادا، إلى المعسكر ذاته الذي قُتل فيه الجنديان، والقابع بين مليشيات روسية وأخرى أوكرانية متصارعة (الولايات المتحدة بينهما قوات حفظ سلام!)، لينظر للموقف من زاوية الميدان لا من خلف الشاشة، في إعادة طرح لما يُسمّى "معضلة الترولي"، التي طرحتها الفيلسوفة البريطانية فليبا فوت، وملخصها إن كنت بين خيارات ثلاثة، إمّا إنقاذ خمسة بقتل واحد، أو إنقاذ واحد بقتل خمسة، أو أن لا تتدخل بالمرّة، ماذا تفعل؟! مرّت هذه الأطروحة بعدّة تعديلات، كانت كلّ مرّة تجعل الإجابة أكثر صعوبة.
الفيلم الذي لا يخلو من الابتذال في إعادة تقديم الأفكار السينمائية، في محاولته مناقشة مسألة الخسائر الجانبية، فشل بدوره في مسعاه لتقديم تعديلاته الخاصّة على المعضلة، ليس فقط لسذاجة التعديلات ورداءة قالبها السينمائي، ولكن أيضا لأنه جعل الأمريكي محور المعضلة، وبقية البشر، حتى لو كانوا ضحايا الأخطاء الأمريكية، تعبئة فراغات في الحوارات المملة!
التشويق السنيمائي في مهمات الاستخبارات الأمريكية، أكثر واقعية، ولكنه لا يخلو، في وصفه للعمليات، من اللمسة السحرية. الهدف على شرفة بيته في كابل، التي انسحبت منها الولايات المتحدة للتوّ، يمزقه صاروخ ""هيلفاير" مطوّر، لا يحوي رأساً متفجراً، بل شفرات حادّة تمزّق الضحية، بلا خسائر جانبية، ثمّ تترك الدعاية الواقعية للمخيال المشحون بالسينما الأمريكية، استدعاء العديد من المشاهد المفترضة، من قادة الطائرات خلف شاشاتهم، وعملاء الميدان "الشجعان" قد فرغوا من تأكيد معلوماتهم وهم في طور الانسحاب أو مراقبة النتيجة، بينما يلفّ الإدارة الأمريكية المجتمعة من خلف المحيط موقف من الترقّب الذي تختلط فيه الصرامة بـ"الطيبة"، لقد جعلت أمريكا كلّ شيء مبتذلاً!
التشويق السنيمائي في مهمات الاستخبارات الأمريكية، أكثر واقعية، ولكنه لا يخلو، في وصفه للعمليات، من اللمسة السحرية
يبدو الأمر وكأن الولايات المتحدة، بعملية الظواهري قد تجاوزت معضلة الخسائر الجانبية، لكنها ظلّت متورّطة في الاستعراض المزعوم عن قلقها الأخلاقي، حتى وهي تقتل البشر، وتحتقرهم كلّهم وهي تخرق سيادة بلدانهم، ولن يفوتها في الوقت نفسه استعراض تفوّقها التقني، ولكن بالطريقة الواقعية السحرية، التي تقول بدورها هذا رأس جبل جليد قدراتنا!
في آب/ أغسطس من العام نفسه الذي طرحت فيه نيتفلكس فيلمها الرديء للبثّ الرقمي، قتلت طائرة أمريكية مسيّرة عائلة كاملة من عشرة أفراد في أفغانستان، بينهم خمسة أطفال، لم تكن خسائر جانبية لهدف محقّق، ولكنها كانت ثمن معلومة استخباراتية خاطئة. لا تملك الولايات المتحدة، التي ترى طائراتها المسيرة الأرقام الدقيقة على لوحات السيارات، الوقت الكافي للتأكد من ركاب الحافلة المستهدفة.
في سوريا والعراق وحدهما، وبحسب إحصاءات الجيش الأمريكي، وخلال خمس سنوات منذ العام 2014، قتلت الطائرات الأمريكية المسيرة 1417 مدنيّا. لكن "نيويورك تايمز" ناشرة التقرير؛ رجّحت أن عدد القتلى أعلى بكثير، ففي السنوات الخمس المذكورة، شنّت الولايات المتحدة أكثر من 50 ألف غارة جوّيّة في سوريا والعراق وأفغانستان.
في سوريا والعراق وحدهما، وبحسب إحصاءات الجيش الأمريكي، وخلال خمس سنوات منذ العام 2014، قتلت الطائرات الأمريكية المسيرة 1417 مدنيّا. لكن "نيويورك تايمز" ناشرة التقرير؛ رجّحت أن عدد القتلى أعلى بكثير
يتحدث التقرير، عن قبول أمريكي مؤسّسي بفكرة الخسائر الجانبية، ما دامت العملية قد قامت على تقييم صحيح للخطر على المدنيين، ومرّت في تسلسل قيادي، يفضي إلى مكاسب عسكرية. لكن ذلك العدد الهائل من الضحايا المدنيين، يؤكّد أن تقييم الخطر على المدنيين كان هامشيّاً في الغالب، وأمّا المكاسب العسكرية فليست أكثر من اختبار للتقنيات الأمريكية، وجعل القدرات الأمريكية في طور التدريب الدائم والمفتوح، وإلا فإن آلاف الأهداف لم تكن عسكرية ولا "إرهابية".
وبالتعبئة المستمرّة حول أهداف الجيش الأمريكي في تلك البلدان، يصير "التحيّز التأكيدي" المحرّك الفاعل للتسلسل القيادي في إعطاء الأوامر بالقتل. فكلّ ما يتحرّك في هذه البلاد "إرهابيّ" محتمل، ويصير مبرَّراً بذلك قتل آلاف المدنيين. لا يخلو الأمر من أخطاء تقنية، يدفع ثمنها غير الأمريكيين. الأخطاء التقنية لا حضور لها في الدعاية السياسية الأمريكية، وأمّا في السينما فقد تظهر نتيجة لفرط التفوق التقنيّ، أي "ما زاد عن حدّه انقلب ضدّه"، فالأمريكي متفوّق في أحواله كلّها، حتى في أخطائه؛ القادر على معالجتها في النهاية!
لا تقول عملية اغتيال الظواهري الشيء الكثير المختلف، فالتجربة الطويلة مع الولايات المتحدة، لا تترك كبير وزن أخلاقي لشفرات صواريخ "هيلفاير" الحادّة ما دام العالم لعبة فيديو أمريكية
الواقع مليء بالأخطاء والفشل الاستخباراتي بما لا تقوله الدعاية الأمريكية الواقعية ولا السينمائية، وإن كانت الدعاية الواقعية والسينمائية لا تُغفلان ضرورة التزين بالقلق الأخلاقي والتبشير بمستقبل تقني بلا "خسائر جانبية". هذه بعض دعاية عملية اغتيال الظواهري، لكن الأعداد الهائلة من الخسائر الجانبية، تمنح اللا مبالاة الأخلاقية وزناً أكبر من مجرّد الفشل الاستخباراتي والأخطاء التقنية. فالعالم لعبة فيديو أمريكية، وبهذا فالخسائر الجانبية كلّها مقبولة، حتى لو لم يكن في العملية إلا الخسائر الجانبية! فعشرات آلاف الغارات الجوّية لم تكن تستهدف أهدافاً ساخنة، أو بالتعبير الإسرائيلي "قنابل موقوتة"، حتى لو افتُرِض أن المعلومات الاستخباراتية عن أشخاص الأهداف كانت دقيقة، لكن هؤلاء الأشخاص كانوا أبعد بكثير من أن يستدعي تهديدهم المفترض هذا العدد الهائل من الغارات الجوّيّة!
لا تقول عملية اغتيال الظواهري الشيء الكثير المختلف، فالتجربة الطويلة مع الولايات المتحدة، لا تترك كبير وزن أخلاقي لشفرات صواريخ "هيلفاير" الحادّة ما دام العالم لعبة فيديو أمريكية، وطالما كانت العمليات التي من هذا الوزن دماء في طاحونة السياسة الأمريكية.
اغتال أوباما بن لادن، وترامب أبو بكر البغدادي، وبايدن الظواهري. الأخير بات أقلّهم خطراً، وتنظيمه متآكلاً وفاقداً للجاذبية، ولا ينمّ حضوره عن أدوار واضحة لحوحة في الوقت. لكن الانتخابات الأمريكية لا تنتظر، والأوسمة المعنوية تدغدغ شهوة الرؤساء الأمريكيين!
وسوم: العدد 991