في أولوية تعليم الدين وتعليم العقل .. أو لعلهما في مساق واحد !!

أصبحتُ اليوم، تحت تأثير واقع نمت عليه، أتساءل: أيهما أولى تعليم الناس العقل، أو تعليمهم الدين؟؟!!

ومع أنني أتجاوز دائما عصر الثنائيات، وأكره ان يطرح على الطفل سؤال من نوع، تحب أمك أكثر أو تحب أباك؟؟ إلا أن هذا السؤال بات يستحكم فيّ إلى حد كبير، وإذا أردت أن أخفف وقعه، ربما أقول، لأيهما الأولوية في التعليم في واقعنا المثخن: للعقل أو للدين؟؟

في الإسلام الذي تعلمت، أخبرنا القرآن الكريم في مواضع كثيرة أنه خطاب لقوم يعقلون ويتفكرون ويتدبرون ويتذكرون..

وأظن أن عمليات التعقل والتفكر والتدبر والتذكر لا تطلق على العقل البيولوجي المتمثل في وجود كتلة الدماغ في قاع الرأس، وإنما هي عملية مركبة معقدة تنبني على مقدمات وقواعد وقوانين ومناهج…

وكل ذلك يحتاج إلى تربية وتنمية وتدريب وتوجيه واعتماد واحترام!!

وفي علم علمائنا العقلاء، قرروا بحسم ووضوح، أنه يجوز "للمكلف" وهذا مصطلحهم عن الانسان العاقل الذي هو موضع الخطاب الديني أصلا، أن يمتثل على مستوى العبادات بتقليد، فيصلي ويصوم ويزكي ويحج ويبيع ويشتري ويتزوج بقول عالم يثق فيه، فيقلده بقوله، من دون أن يعلم مرتكزات هذه الأقوال، أو مستنبطاتها؛ ولكنهم، وما أجمل ما سأنقله بعد "ولكنهم" هذه، رفضوا بجمعهم أن يصح إسلام المسلم بتقليد!! وقالوا لا بد أن يكون له أن يسبق إسلامه بحظ من النظر والتعقل والتفكر والتأمل والتدبر ،وهو يشهد أن لا إله إلا الله.. ولا يجوز أن يظل ذلك وراثة عن الأبوين والأسرة والمجتمع، وقول الزعيم والكبير والعشيرة، وجماعة عليهم عليهم..

وينسبون إلى فلان، وهو من الزهاد الشعراء الذين يحذرون من الدنيا ويرغبون في الآخرة، ويتهمون بالزندقة أيضا…!!

ينسبون إليه وقد أنكر بعض الناس عليه أنه يصلي مع ما هو فيه من الاعتقاد، فقالوا له : نراك، مع ما أنت فيه من الاعتقاد، تصلي؟؟ فأجاب: عادة البلد، وأمان المال والولد!!

حين نتابع اليوم هذا الصخب المختلط المضطرب باسم الاسلام، على مستوى أصول الدين وفروعه على السواء؛ هذا الصخب المنتشر حتى بين من يزعمون أنهم أصحاب القول ومالكو خطامه؛ تتساءل: أنى هذا؟؟ وكيف تسلل إلى المسلمين كل هذا؟؟ كيف نجمع بين هذه الأقوال بكل مفترقاتها وفي كل واحدة من السبعين سبعون!! هؤلاء المسلمون الذين كانوا سادة من عقل وفكر وحسن تدبير كيف صاروا إلى حال وتقول: ما أكثر الناعقين المتبعين!!

كيف…؟؟وقد كرر عليهم القرآن الكريم في مواضع عديدة أن مهمة الرسول الكريم مزدوجة، تعليم الناس الكتاب، أي الدين، وتعلميهم الحكمة، أي العقل، وان يعلمهم كيف يضعون الأمر أو الشخص أو الشيء في موضعه، ولا أدري كيف أغار بعض المفسرين على معنى الحكمة فألحقوه بطريقة تبعية بالكتاب.

في لغة العرب نقول العطف يقتضي التغاير، والمهمة التي كلف بها النبي الأمي في تعليم الأميين مزدوجة، تعليم الكتاب بكل ما يستنبط منه ويبنى عليه، وتعليم الحكمة بوصفها قسيما مستقلا قائما بنفسه، والحكمة هي العنوان الجامع لكل ما يقتضيه العقل من فكر وفعل وموقف. وربما من الجرأة أن نقول: إن الحكمة كانت في النهج وفي الطريقة وفي الأسلوب الذي حقق أعظم النتائج، بأقل الوسائل، في أقصر الأوقات، وهذه عبارة استعيرها من الشاعر الفرنسي الكبير "لامارتين"

واقرأ معي إذا شئت، بعد الثناء على العزيز الحكيم في مطلع سورة الجمعة قال مولانا: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)

لو لاحظنا: تلاوة الآيات قسيم، والتزكية - التربية النفسية - قسيم آخر. ثم تعليم الكتاب بما فيه من إجمال، مقابل الإفراد الأول في ذكر الآيات، قسيم، والحكمة التي هي التربية العقلية، وتعلم كيف يوضع الشيء في موضعه، وبقدره، وفي توقيته؛ قسيم آخر.

وبعض الناس لا يريدوننا ان نتعلم، إلا على طريقة الذي قال (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ)

ومرّ سيدنا عمر رضي الله عنه على رهط من الشباب في المدينة المنورة، يتبارون برمي السهام، ورآهم يخطئون في رميهم، فأعطاهم بعض التعليمات، فرد عليه أحدهم مغرورا: "إننا متعلمين" بدل ان يقول "متعلمون.."

فقال لهم عمر رضي الله عن عمر : لخطؤكم في لسانكم أشدُّ عليّ من خطئكم في رميكم!! وقصد من قوله "في لسانكم" أي في لغتكم ونحن في يوم اللغة العربية..

وحين أتابع بعض الناس يلعبجون باسم الدين العقيدة والشريعة ومنهج الحياة، أقوالا ومواقف وسياسات تنبو عن العقل وتجافي الحكمة، أتذكر قول عمر وأريد أن أقوله:

أيها الناس إن أخطاءكم فيما تقتضيه الحكمة مما علمكم نبيكم أشد عليكم من…

وكيف لمثلي أن يجرؤ فيقول مثل ما قال عمر!!

وأسأل رجلا أن يقف أمام المرآة، فيساءل نفسه، وأين

حصاد ما زرعت على مدي عشر سنين دأبا..؟؟!!

ويرد علينا إبراهيم عبدالقادر المازني بعنوان كتاب له "حصاد الهشيم"

لقوم يعقلون...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1011