مصر «تدجين» الجماهير والحنين إلى القمع «الرحيم»
من الجائز، بل الطبيعي تماماً، أن يقارن الناس، أفراداً كانوا أم جماعات، بين حالهم الآن وحالهم في ما قبل، خاصةً في سياق واقعٍ مادي ومعيشي يتدهور بسرعةٍ فائقة؛ حتى في أوج احتدام أزمتهم (بل أزماتهم)، وبينما يبدو أنهم لا وقت لديهم ولا رفاهية للالتفات لأي شيءٍ سوى البقاء والاستمرار بمعناهما الأكثر بدائيةً، فإنهم، دون شعورٍ أو إرادة، يتعاطون ويتفاعلون مع هذا الواقع، يكونون انطباعاتٍ وتتشكل لديهم ردات فعلٍ عليه، تضعهم في حالةٍ نفسيةٍ معينة، وليس هذا لعبقريةٍ خاصة، أو ثقافةٍ راقية في هذا الشعب أو ذاك، بل لأن ذلك من خواص هذه السلالة، ومن صميم بنيتها الذهنية، وقد تضاف إلى هذا محاولات التأثير الخارجية تأكيداً على معان ورسائل ما وتأثيراً. كذلك الحال في منطقتنا العربية، فنحن لا نشذ عن بقية البشر، وإن ميزتنا بطبيعة الحال جملةٌ من العوامل كموقعنا الجغرافي وتفاعله مع التاريخ، وما أنتجا من خصائص فكرية وبنى اجتماعية.
في ما يخص مصر التي تشغلني بشكلٍ خاص، مراقباً متابعاً عن كثب تطورات السياسة والمجتمع فيها، وتعرجاتهما منذ ما قبل ثورة يناير، إلى ما بعد الانقلاب، فإن الصورة التي تتشكل جد مفزعة بقدر ما هي محزنة، وإذ نشهد الآن تدهوراً سريعاً تتسلط عليَّ صورة الغالبية العظمى من الناس، ومنهم كثيرون ممن أعرف، حين استبدت بهم نشوةٌ عارمة إزاء ما يرونه من كباري وطرقٍ تشيد، بينما هم في حقيقة الأمر يُسار بهم نحو هاويةٍ سحيقة.
قلةٌ، صفيقةٌ في حقيقة الأمر، هي التي ما زالت تجادل وتحاجج الآن في كون الاقتصاد، وقدرة الناس الشرائية وأحوالهم الاجتماعية بالتبعية، في سقطةٍ حرة؛ الأكيد أن المسؤول الأول هو السيسي باستبداده بقراراتٍ سياسيةٍ واقتصادية، تنضح جهلاً وحماقة، نابعةٍ من تصوراتٍ تسكن عميقاً في ذهنه محدود الذكاء والمعرفة البدائية والثقافة، ومؤخراً، لا بد لي من أن أعترف بأنني بِتُ أشك، أو على الأقل لم أعد أتوفر على مقاومةٍ كافية، لدفع هواجس ومخاوف في أن ثمة شبهة تعمدٍ في إغراق مصر في المزيد من الديون. أما المسؤول الثاني فهو ذلك النظام من رجالاتٍ (أو أشباههم) ممن يحيطون به ولا يجرؤون على معارضته وتبصيره بمزالق ومخاطر اختياراته، على الرغم من مؤهلاتهم العلمية وثقتي في أنهم يعرفون ويفهمون أكثر منه. لكن تظل الحقيقة الظاهرة أن نظام الثورة المضادة هذا نجح إلى حدٍ بعيد في زرع الرعب في الناس، ويخوض معهم تجربةً لعلها فريدة في تاريخ مصر المعاصر، بقدر ما هي مظلمةٌ وقبيحة، فهو لم يحشُ أدمغتهم بالأكاذيب والافتراءات عن ثورة يناير فحسب، بل هو ماضٍ بشكل متواصل في إعادة تشكيل ومن ثم تشويه بنيتهم النفسية والاجتماعية. لم ينهض النظام من حطام ثورة يناير، دامي الوجه تملأ جسده الرضوض والكدمات، ليعيد ترميم نفسه ولينتقم فحسب، بل ليسد كل الثغرات التي قد يتسرب منها بصيص نور، وكل المساحات التي قد تسمح أو تمهد لحراكٍ مشابهٍ مرةً أخرى. لم يكذب السيسي ولم يبالغ حين أعلن نيته أن ما شهدته مصر في 2011 لن يتكرر مرةً أخرى، ووراء هذا التصميم تكمن قناعةٌ لديه ولدى منظومته الأمنية بأن مساحة الحرية أو «التنفس» النسبية، التي أتاحها مبارك، والتهاون أو الاستخفاف، النسبيان أيضاً، اللذان تعامل بهما النظام مع النقد والهجوم هما اللذان فتحا المجال لتجرؤ الناس ومروقهم إلى خانة الفعل والمبادرة. من هنا، لم يقمع النظام مذ ركب السيسي السلطة الناس بمنتهى القسوة والوحشية فقط، بل لقد عمد إلى ترسيخ المساواة الذهنية لدى الناس بين التدهور في أوضاعهم، وكل ما لحق بأحوالهم وما لحق بمصر من تراجعٍ، سواءً كان في الاقتصاد، أو في ملفاتٍ كسد النهضة مثلاً، بثورة يناير، فكل سوءٍ ليس إلا نتيجةً مباشرةً، وفي حين يعدهم دائماً بتحسنٍ مرتقبٍ في الأوضاع، فإنه لا ينفك يلقي عليهم اللائمة ويذكرهم بأنهم لولا تصرفهم الأهوج والأحمق ذاك، أي ثورة يناير، لكانت أوضاعهم أفضل، ومن ثم، وكنتيجةٍ منطقية، تترسخ القناعة بأن أي حراكٍ آخر، هو محض حماقة وسفه، ولن ينتج عنه سوى انهيارٍ في أوضاعهم المعيشية، ناهيك عن ضحايا بعشرات، إن لم يكن بمئات الآلاف ودمارٍ عميم، لأن السيسي لم يخفِ أيضاً ولم يخفف من لهجته ونيته استخدام كل المتاح لديه من قوة، بل وصفها في جهلٍ كاشف، بالغاشمة.
لم يعمد النظام عبر أجهزة إعلامه، والسيسي بصورةٍ خاصة، لمجرد زرع الشعور بالهزيمة والذنب عن مسؤوليتهم بالخروج في يناير لدى الناس، بل شفعها بالتيئيس المنهجي من إمكانية التغيير، أو مساواة التغيير بالتدهور.
في يقيني أن النظام يخوض تجربةً لعلها رائدةً في تاريخ مصر المعاصر، شيء يشبه تدريب القرود أو ترويض الحيوانات وتدجينها، حيث يقرن كل فعلٍ يراه مخالفاً أو متمرداً بأقسى درجات البطش والقسوة. كأن النظام يراقب، مرحباً نوعاً ما، ببوادر الهمهمات والتململ ومجرد نظرات التمرد لينهال بكل ثقله وبطشه ليضرب، ويسرب أخباراً طيلة الوقت بكم يلاقي المسجونون من صنوف العسف وقسوة ظروف المعيشة، أو اللامعيشة في السجون، ليمتنعوا لا عن الشروع في تمردٍ، أو ثورة، بل مجرد التفكير ونجوى النفس بها، فهم يتذكرون، كالقرد المدرب، أو كلاب بافلوف في تجربته الشهيرة، كم الألم المصاحب لهذه الأفعال والتحركات. ومن منطلق تاريخٍ طويل وممتدٍ من العسف والإهانات والتهميش والإبعاد (بلغت ذروتها ربما على يد المماليك) بما ترسخ في الوعي الجمعي من أفكارٍ تقدس الحل الفردي، وتقتنع بأن «الحسنة تخص والسيئة تعم» نرى اضمحلالاً ومن ثم تحللاً متدرجاً لفكرة المجتمع المصري، حيث لم يعد هناك شأنٌ عام أو همٌ وطني يشغل الناس، عدا حياة كلٍ منهم ومصالحه المباشرة؛ ينتفي المجتمع أو الشعب، تحت وطأة ثقل الدولة الرهيب وسحقها لأي احترامٍ للذات والقدرة الذاتية على الحراك والاختيار والفعل، ولا يبقى حصيلة ذلك في هذا البلد الضخم سوى نظامٍ متضخمٍ ثريٍ باطش، هو نفسه الطبقة الحاكمة إزاء «تجمعٍ سكاني» هائل، منفصم الأواصر والعلاقات، يتبلد حتى يفقد أي معان للتضامن والعمل الجماعي المنظم، ويصبح شعار الكل «يلا نفسي». في ظل كل هذا، ليس عجيباً أن يقارن الناس، فرادى وجماعاتٍ غير منظمة، ذلك الكابوس بعهد مبارك، حين كان القمع مهاوداً وأكثر تعقلاً وحناناً، حين لم يكن القيد يدمي المعصم والكاحل كما هي الحال الآن، بل كان يسمح بحيزٍ ولو ضئيل، فالقيد موجود لكنه كالإسوارة، وقد ألفه البعض، كما لو كان حليةً أو شرطاً وجودياً، وحين كان هناك مجال، نظراً لبطء معدل التدهور، للتحايل على المعايش والاحتفاظ بقدرٍ ولو يسير من الأمان، ولم يعرفوا ذلك الخوف الرهيب من الغد. لقد «لمع» السيسي مباركاً ورجال عصره، ولذا فليس غريباً أن يشعر الناس بالحنين إلى قمع عصر مبارك الذي باتوا يرونه «جنةً» ويلومون أنفسهم على القيام بثورة، ويفقدون ثقتهم في أنفسهم، وإن ذلك لقمة البؤس والمفارقة الساخرة في مرارة. في إرهاقهم وإحباطهم وضعفهم إزاء النظام المدجج بالسلاح، يصعب التنبؤ (أو الرهان لنكن صريحين) على مبادرةٍ جماهيرية، لكن ذلك لا يمنع من أن يتسبب خطأٌ جسيم في حسابات النظام من إفلات الزمام من أياديهم، وربما يكون باقياً في قلبه، في مؤسسته العسكرية، من لا تعجبه ولا تروقه الخطط الجارية لإعادة توزيع الثروة وترتيب أوراق المنطقة. لن أحذو حذو النظام في الحكر على المستقبل، فقد علمنا التاريخ أن المفاجآت دائماً واردة وأن التاريخ لم ينته بعد.
وسوم: العدد 1012