في تأمّل تجربة الكتابة منع القرّاء من التعليق على منشورات الفيسبوك
في منشور قصير يحمل نوعاً من العتب، يكتب الكاتب المقدسي إبراهيم جوهر على صفحته في الفيسبوك يلومني لأنني لا أتيح على صفحتي خاصية التعليقات، وقد رأى جوهر أن هذا الأمر "إرسال بلا استقبال".
لقد مر في الحقيقة وقت طويل قبل أن أنتبه إلى هذه الخاصية، وأظن أنها "ميزة" إضافية من تحديثات الفيسبوك، كنت دائما أفكر بهذا الأمر. كيف أتمتع بكامل حريتي على صفحتي دون أن يزعجني أحد بتعليقات طفولية متطفلة.
لا يصح في مثل الفيسبوك القول "من نشر عرّض نفسه للنقد"، لأن ما يتم على هوامش المنشورات- غالباً- ما يكون شتائم وتنمراً، وقلة أدب. خاصة التعليق على تلك المنشورات التي لا تعجب القارئ، فتراه ولا أسهل عليه أن ينزل بساحة الكاتب شاتما مستعرضاً منظومة قيمه البالية التي لا يعرف معناها. حدث هذا معي مرات متعددة على صفحتي وعلى الصفحات التي تنشر شيئا من نصوصي ومقالاتي، وخاصة مقالات: "أجمل ما في المرأة ثدياها"، و"السمات المشتركة بين الكمامة والكلوت"، و"أعمق ما في التفاحة مركزها"، عدا النصوص السردية والشعرية، وبعض المقالات الفكرية مثل مقال "القرآن تلك الظاهرة الإبداعية الشاملة"، والسياسية وبرزت التعليقات البائسة جدا على أذيال مقال "لقد اعتادت حماس على الزنا السياسي" عندما نشره أحد الأصدقاء في مجموعته الخاصة بالشأن السياسي.
في كل مرة من هذه المرات كنت أجد من يسيء الفهم، فيزعجني كثيراً، فوجدت هذه الخاصية تتيح لي أن أكتب وأن أنشر، وأن يظل تعليقه "السافل" حبيس نفسه المنحطة. صحيح أن ما قاله جوهر إن هناك من سيعلق بما يسر الكاتب، وليس شرطا ما يسوؤه، لكنني من أجل أن أسد هذه النافذة من التعليقات السلبية، أرحت نفسي من كل التعليقات أيضاً، فليس صحيحا ما قال أحد أصدقاء إبراهيم جوهر في تعليق له: "لقد تابعته- يقصدني بطبيعة الحال- منذ فترة وقرأت له، وجدت أنه يكتب أحيانا ويتهجم على بعض الكتّاب دون وجه حق! وحين يكتب ويتهجم لا يود استقبال التعليقات المخالفة لرأيه، وغالبا ما تكون كتاباته مليئة بالجدل والشتائم مع الأسف! يبدو بأنه لا يتقبل الرأي المخالف، يريد أن يقول كلمته دون أي اعتراض وهذا عيب كبير، فأن تكتب رأيك لا مشكلة في ذلك، وأن تكون ناقدا فذلك جيد، تنتقد النص وتحلله لا أن تنتقد الكاتب وتشتمه وتقلل من أهمية ما كتب! فهذا ليس نقدا ولا حرية تعبير ولا حرية رأي، هذا تعدٍ واضح على غيره من الكتّاب، فالنقد له أصول وشروط من أهمها مناقشة النص دون التعرض لشخص الكاتب". مع أن كل هذا التعليق بكل ما فيه غير صحيح بتاتاً، إلا أنني ألفت نظر صاحبه أنني "مانع للتعليقات" كلها في جميع الموضوعات، ولا أنتظر شيئا منها، علما أنه لم يكن هناك أي مقال شتمت فيه شخصا أو تعرضت له في صفاته، إنما هو الفهم القاصر لصاحب التعليق وغيره من الذين لا يرون الأمور إلا كما يصور لهم عقلهم المتحجر، قصدا لا حسن نية فيه.
على أية حال، فهل سأخسر من هذه العملية شيئاً؟
لعلني من أكثر الكتاب اهتماما بآراء القراء "المحترمين"، ومعنى المحترمين من لا يشتمون ولا يتنمرون، ويناقشون بعلمية ومنطق حتى وإن اختلفوا معي بالآراء. لقد دفعتني تعليقات القراء الوازنة، ومنهم أصدقاء وغير أصدقاء، ومنهم أيضا كتّاب وغير كتاب، إلى أن أضمنها في كتبي وأهتم بها كثيرا، لأنها تفتح لي آفاقا جديدة، إضافة إلى أنها نوع من التفاعل الإيجابي مع ما أكتبه وأفكر فيه، ولم أكن أفرق في هذه التعليقات بين التعليقات السلبية وغير السلبية، بل كنت أنشرها كلها. ومن أراد أن يطلع على ذلك فسيجدها على سبيل المثال في كتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات نقدية في القصة القصيرة جدا"، وفي كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية". وما زلت أحتفظ بالكثير من تلك الآراء، وقد جمعته من بعض المواقع الإلكترونية ليكون في كتب قادمة، حتى تكتمل الصورة. بل إنني أيضا استفدت من تلك التعليقات في سلسلة من الحوارات تحت عنوان " أسئلة من بريد القراء"، ونشرت بعضها، وكان منها أسئلة قد تبدو محرجة إلا أنني لم أحذفها، وأوليتها اهتماما وأجبت عليها.
لقد ساعدني تأمل هذه العملية من النشر والتعليق، وإثارة النقاش حول الأفكار، أن أبلور تنظيرا- أعتقد أنه مهم- تحت عنوان "النقد التفاعلي"، وقد استطعت أن أرصد أكثر من عشر صور لهذا التفاعل الإلكتروني، لقد تعدى مفهوم "النقد التفاعلي" عندي ما يعرف بالنقد الفيسبوكي، مع أن هذا النوع هو شكل من أشكال "النقد التفاعلي".
أعترف أنني خسرت كثيرا من التعليقات التي ربما ستكون رافدا مهما من روافد الأفكار وتضيء على ما أناقشه من قضايا. لكنني في التقدير العام أرحت نفسي من عناء ذم الآخرين لي، وأرحت آخرين أيضا من عناء مدحهم لي، فقد وصلت إلى مرحلة "لا الذم يعنيني ولا المدح ينفعُ"، وهذا بكل تأكيد ليس له علاقة بالشجاعة، فليس شجاعة أن تتيح للناس أن يشتموك. علما أن باب الشتائم مفتوح لمن أراد أن يشتم، فليشتم كما يحلو له بمنشور مستقل على صفحته، فله ذلك ولا أحد يمنعه، وسأدخله أنا في حرية التعبير ولن أحاسبه، أما أن يعرّش على ذيل الموضوع في صفحتي ويأخذ بالردح وقلة الأدب فليس له ذلك، وليس من الأخلاقيات أن يفعلها، إن بعضهم قد وصل إلى درجة التجريح الشخصي والعائلي واتهامي باتهامات يخجل المرء من إعادة كتابتها، وتستدعي الملاحقة القانونية، وما زلت أحتفظ بها، لكنني "أسامح من اعتدى"، ولا أقابل إساءات السيئين بمثلها.
لا شك في أن الكتابة "المناضلة" تجلب وجع الرأس، وخاصة في زمن كمثل هذا الزمن الذي يمتلك فيه "الجاهل" جهاز هاتف ذكي، ويتمتع بخدمة الإنترنت وقادر على أن يسدد فاتورته الشهرية، فصار من الطبيعي ألّا يحسن فهم المقروء، فيهرف بما لا يعرف، وكما قالوا قديما: "السيف بيد الجبان يجرح"، كذلك "الهاتف والإنترنت" بيد الجاهل يؤذيان، وأذاهما كبير جداً، ولأجل راحة النفس لا أتيح مجالا ليكون بعض القراء سفهاء على صفحتي، ورحم الله امرأ جبّ المغيبة والشتيمة عن نفسه، فارتاح وأراح، ألم يقولوا: "وفي الترك راحة"؟
ماذا على القراء لو فعلوا مثل ما أفعل فيكتفون بالقراءة فقط، دون الحاجة إلى أكثر من ذلك؟ إن في هذا التصرف أخلاقية عليا واحتراما كبيرا للكاتب؛ فالكاتب لا يكتب ليتحول موضوعه ملطمة عليه، إنما ليكون مجالا للحوار المنضبط والمناقشة الواعية، وما أكثر سبلها! فهي متاحة في "البريد الإلكتروني"، و"رسائل الواتسأب"، و"رسائل الدردشة في الفيسبوك"، أو في كتابة المقالات والرد عليها. أما أن يفرّخ القارئ الموهوم عقده في "عقر منزلي"، فهذا أمر لن يكون له متاحاً أصلا، كي لا أضطر إلى تنظيف ما "شاط" به فلطخ حائطي بما هو شائن له أولا وأخيراً.
لكل هذا فليعذرني الكاتب والصديق إبراهيم جوهر، وكل الأصدقاء والصديقات الذين أرسلوا لي رسائل، فظنوا أنني مانعهم وحدهم من التعليق، ولم يكن الأمر واضحا لهم بما فيه الكفاية، كما هو واضح الآن.
وسوم: العدد 1015