خارج الزمن

عام 1991، أنجز مارون بغدادي فيلمه: «خارج الحياة»، الذي ساهمت فيه عبر المشاركة في كتابة السيناريو والحوار.

وعام 1999 أصدر إدوارد سعيد مذكراته بعنوان «خارج المكان».

لا توجد أي علاقة بين العملين باستثناء لجوئهما إلى استخدام كلمة «خارج».

فيلم مارون بغدادي كان يتلصص على الحياة والعالم من ثقوب حكايات المخطوفين والرهائن، وهي حكايات تلقي الضوء على أحد الجوانب المأساوية والعبثية في الحرب اللبنانية.

وإدوارد سعيد بنى مكاناً لفلسطين على الخريطتين الثقافية والسياسية من خارج مكانه.

هذان العملان كانا جزءاً من زمنيهما، وشكلا بطريقتين مختلفتين تحدياً للزمن وقبضاً عليه في آن معاً.

وهما شهادة على قدرة الحياة على مقاومة الموت، سعيد أعاد المكان إلى مكانه في فلسطين، وبغدادي اكتشف كيف تستطيع الحياة أن تتسلل من شقوق الموت، وتكتشف الضوء في تلاوين العتمة.

عملان مرتبطان بالزمن، فهما ككل الأعمال الفكرية والإبداعية، يتشكلان كحوار مع الزمن الذي كتبا فيه، وكإطلالة على الأزمنة الآتية.

لا يمكن تخيل حياة خارج الزمن، فخارج الزمن له اسم واحد هو الموت، وهذا ما قاومه إدوارد سعيد ومارون بغدادي بطريقتين وأداتين مختلفتين.

لكن كيف نصف الحياة في بيروت اليوم؟

عندما أعود بالذاكرة إلى فيلم بغدادي، أُشعر بالخوف من الحاضر.

فبعد نهاية الحرب الأهلية وتسوية الطائف العرجاء التي أخضعت لبنان للهيمنة السورية وسلمته لأمراء الطوائف والمافيات، كان علينا أن نقاوم الحضيض عبر الدفاع عن ذاكرة الضحايا.

وكان ذلك ممكناً على المستويين الأخلاقي والثقافي. فالسلطة الجديدة كانت عارية من الأخلاق ولا تملك أي مشروع ثقافي، مشروعها الوحيد كان بناء اقتصاد نيوليبرالي متوحش ممزوج بشهية للنهب المكشوف.

لذلك قاومت بيروت هذا الانحطاط عبر مجموعة من المنابر والفضاءات الثقافية، وربطت مقاومتها الثقافية بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب.

كنا وسط شعورين متناقضين:

شعور بأننا نستطيع أن نستعيد بيروت بالعمل الثقافي، لأن هذه الاستعادة تحمل في داخلها احتمالات بدايات عربية جديدة من جهة، وشعور بمحدودية قدراتنا أمام هول انزلاق المدينة إلى خراب جديد اسمه إعادة الإعمار، من جهة ثانية.

وكنا نشعر بالأسى والوحدة، وبأن ما عشناه خلال الحرب وفي مرحلة السلام الناقص كان الحضيض.

لكننا كنا على خطأ.

إذ لم يخطر في بالنا أن خيال الطغاة واللصوص يمكن أن يذهب إلى ما لم يخطر في بال أحد.

مرة كتب أدونيس عما أسماه «الخراب الجميل» الذي لم يأتِ: «جاء العصف الجميل ولم يأت الخراب الجميل».

كنا نلهو بسحر الكلمات، لكن عندما أتى الخراب الحقيقي، خراب الأمكنة والأرواح، نفد الكلام.

هذا الخراب ليس بيروتياً فقط كما نعتقد، فبيروت هي مرآة خراب المشرق العربي، ولكن ماذا نفعل بالمرآة حين تتكسر وتتشظى؟

هذا هو الحضيض، إنه مأساة المرآة التي صارت حطاماً.

كيف نروي بيروت اليوم؟ ومن يستطيع أن يكتب حكاية مدينة طردت من الزمن؟

ما يجري اليوم لا اسم له سوى أنه «خارج الزمن»؛ فالمكان لم يعد قادراً على صوغ زمنه، كما أنه ليس جزءاً من زمن عربي يتكسر في فتات المرآة اللبنانية، ولا يجد مكانه ومكانته في العالم.

كيف خرجت بيروت من الزمن؟

المناخ السائد في المدينة، منذ انفجار المرفأ في الرابع من آب- أغسطس 2020، هو العجز.

فقد نجحت المافيات في استعادة السلطة التي سقطت في شارع انتفاضة 17 تشرين- أكتوبر، عبر تدمير الشوارع وتدمير احتمالات العدالة.

لكن السلطة المرتبكة والعاجزة والمنقسمة على نفسها صارت جثة.

بيروت في قبضة جثة السلطة، وحكم عليها بأن تتحلل كما تتحلل السلطة نفسها.

هذا هو الحضيض.

زمن رثاء المدينة لم يأت بعد. فبيروت لم تمت، لكنها نحتضر.

هل نستطيع أن نعيش في وسط الاحتضار؟

وسط خرابنا الراهن نستعيد خراباً آخر في جبل لبنان ومدينة دمشق خلال الحرب الأهلية عام 1860.

بعدها برز مفهزم النهضة كجواب غير مباشر على الكارثة، وكان النهضويون اللبنانيون والسوريون يعلمون أن النهوض من الركام ليس ممكناً إلا إذا كان المشروع النهضوي عربياً، يجدد اللغة والفكر، ويبني قيم الحرية والعدالة.

غياب المشروع العربي هو سبب هذا الشعور بأننا طردنا من الزمن.

الشعور باحتضار المكان ليس سوى ترجمة لموت زمن لبناني وعربي قديم. فالمسافة بين طغيان العسكر باسم الثورة وطغيان أنظمة النفط بحجة المحافظة على الهوية انتهت.

الديكتاتورية العسكرية في السودان تلتحق بركب الإبراهيميين.

استبداد عسكري يقود إلى خراب سياسي واقتصادي.

واستبداد نفطي يقود إلى خراب أخلاقي وروحي.

مافيات السلطة في لبنان ترقص على إيقاع الخرابين، ولا تجد لنفسها موقعاً بعدما حولت بيروت إلى حطام.

لا نرثي بيروت، بل نحزن على أنفسنا لأننا لا نزال عاجزين عن الخروج من الدائرة القديمة التي تحاصرنا، كي نبني زمناً جديداً.

وسوم: العدد 1018