الطرق المعيارية لفهم الحالة السودانية
حالة صدمة تعم الأوساط الشعبية العربية جراء الصدام الدامي بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، لتكون بؤرة الصراع الجديدة في الوطن العربي الذي ما فتئ يهنأ بانتهاء الحرب في سوريا واليمن، وسط حالة ضبابية شبه كاملة حول أسبابها ومخاطرها ومآلاتها.
هناك عدة قواعد قد تساعدنا على فهم ما يحدث في السودان، لعل منها الاطلاع على أسباب تأسيس قوات الدعم السريع عام 2013 بدعم من أجهزة الأمن السودانية لتعويض العجز الذي أصاب الجيش السوداني جراء الحرب الطويلة مع متمردي جون غارنغ المدعوم أمريكيا في جنوب السودان، التي انتهت بانفصال الاقليم.
وكان الدور الأساسي لقوات الدعم هو التصدي لمليشيات الجنجويد الانفصالية في إقليم دارفور، واستطاعت أن تحقق انتصارا كبيرا عليها مما حال دون انفراط عقد السودان، وقامت الحكومة باعتبار تلك القوات تابعة للجيش السوداني، هنا على الفور اتهمت أمريكا تلك القوات بارتكاب جرائم حرب، وفرضت عقوبات على نظام الرئيس عمر البشير.
ومن المدهش أن الفريقين المتقاتلين الآن توحدا من قبل فقط في توطيد الحكم العسكري، تارة بالإطاحة بنظام البشير في 6 أبريل/نيسان 2019، وتارة بالانقلاب على الحكم المدني عام 2021.
النفوذ الأمريكي
من المهم أيضا أن نأخذ في الحسبان أنه قبل إنشاء البشير لقوات الدعم السريع بنحو عقد من الزمن، صنفت الولايات المتحدة عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 على لسان رئيسها جورج دبليو بوش سودان البشير واحدة من “الدول المارقة”، ضمن 11 دولة في العالم تميزت بتمردها على حظيرة التبعية الأمريكية من بينها “العراق وسوريا وليبيا واليمن وحماس وحزب الله وإيران”.
وتعهدت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بعد ذلك في حديث صحفي عام 2005 بنشر “الفوضى الخلاقة” وتشكيل “الشرق الأوسط الجديد” القائم على فكرة دمج إسرائيل في المنطقة وقيادتها لها.
وبناء على ما سبق، يمكننا توقع أن تكون إزاحة البشير من الحكم قد جاءت آخر المهام في خطة عقاب الأنظمة المارقة، التي بدأت بسحق العراق وليبيا واليمن وإعدام قادتها، وتخريب سوريا ولبنان وحصار غزة، وكل ما أخشاه من تفجر النزاع السوداني هو أن يكون ذلك مجرد مؤقت لتفجر “الفوضى الهدامة” التي من شأنها تمزيق السودان إربا إربا.
وعقب الإطاحة بالبشير مباشرة، قفز السودان قفزة كانت متوقعة، بتوجه كل من “البرهان وحميدتي” نحو التطبيع مع إسرائيل في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، تلاه قيام واشنطن في 14 ديسمبر/كانون الأول 2020 برفع السودان من القائمة السوداء الخاصة بالعقوبات الأمريكية.
النفوذ الروسي
هناك شكوك قديمة عن وجود علاقات بشكل ما بين قوات فاغنر الروسية وقائد قوات الدعم السريع، وتعاونهما معا في التنقيب عن الذهب واليورانيوم وغيرها من المعادن خارج رقابة الدولة، تعززت بزيارة حميدتي إلى موسكو مع بدء تفجر الصراع بين روسيا وأوكرانيا، ليكرر ما فعله البشير عام 2017 وزيارته موسكو طالبا من بوتين حمايته من التدخلات الأمريكية.
وهناك حديث عن وعود بين حميدتي وروسيا لمنح موسكو قاعدة عسكرية روسية في مدينة “مروي” شمالي السودان، مع قيام قوات فاغنر بتدريب قوات الدعم السريع البالغ عدد أفرادها نحو 100 ألف مقاتل.
يحاول حميدتي إظهار أنه مؤيد للتيار المدني ورافض للحكم العسكري، تارة باعتذاره عن المشاركة في الانقلاب على الحكومة المدنية عام 2021، وأخرى باتهامه بشكل متكرر للبرهان بأنه يحاول عبر جميع قراراته إعادة نظام البشير “ذي القشرة الإسلامية” أو “الكيزان”، ويسعى بهذا الاتهام إلى ذر الرماد في عيون داعمي البرهان الغربيين والتشويش عليهم.
الغريب أنه منذ عام 2013 كانت قوات الدعم السريع تُعَد جزءا من الجيش السوداني، إلا أنه مع توقيع الاتفاق الإطاري المؤسس للمرحلة الانتقالية عقب الإطاحة بالبشير، وجدنا حميدتي يرفض هذا الاتفاق الداعم لدمج “الدعم السريع” في الجيش بقيادة موحدة، ويصفه بأنه سيمزق البلاد!!
وهو ما يكشف عن طموحات حميدتي الكبيرة في السلطة، إذ إن تنفيذ الاتفاق الإطاري سيجعله يفقد سلطته قائدا لهذه القوات التي تتميز بسرعة التنقل، وحرب الشوارع، والخبرة الميدانية الكبيرة التي اكتسبتها من حربها مع مليشيات الجنجويد، مع توافر الانتماءات القبلية التي يتميز بها أفرادها.
الوثائق الصهيونية
في سبتمبر 2008، قال وزير الأمن الداخلي الصهيوني الأسبق آفي ديختر في محاضرة له بمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، إنه ينبغي منع السودان بموارده ومساحته الشاسعة من أن يصبح دولة إقليمية قوية وعمقا استراتيجيا إضافيا لمصر كما حدث في عام 1967، وإنه ينبغي التدخل بكل الوسائل المعلنة والخفية لإضعافه وتمزيقه وإشغاله في أزماته الداخلية، مع اعتبار ذلك من ضرورات الأمن القومي الإسرائيلي.
وبناء على تلك الرؤية الصهيونية، فإن على السودانيين أن يدركوا أن هناك من يعمل على صب النفط على النار محاولا تغذية الطموحات الشخصية في السلطة لدى جنرالات السودان، بينما يخطط في النهاية لحرق السودان فلا يبقى هناك بلد يحكمه أي منهما.
وعليهم جميعا أن يعلموا أنه إذا امتدت يد الخارج لهذا البلد، فإنها في أغلبها لا تسعى لانتشاله بل لإغراقه.
صراع السودان نتيجة طبيعية لحكم العسكر.
وسوم: العدد 1028