السودان.. البحث عن طريق
كان من المفترض أن يكون السودان مثل أي دولة في العالم الأول من حيث رفاهية شعبه وغناه ، فالسودان هو سلة غذاء العالم كله وليس العالم العربي فقط، فهناك عشرات الملايين من الأفدنة الصالحة للزراعة ومئات الملايين غيرها قابلة للاستصلاح والزراعة وما يتبع ذلك من التصنيع الزراعي، ناهيك عن الثروات المعدنية الطائلة التي يتمتع بها هذا البلد الذي يعد أكبر بلد في أفريقيا.
لم يحظ السودان منذ استقلاله وحتى هذا التاريخ بالفرصة لينعم بالسلام والتقدم، لسبب بسيط وهو حكم العسكر الذي جثم على صدره معظم الوقت ، ومثل باقي عسكر العالم الثالث فلا يهم من يستلم السلطة منهم سوى البقاء فيها أطول فترة ممكنة ، ومثل باقي عسكر العالم الثالث لا يتحلى أي فرد منهم بالذكاء والحكمة .
لا نجد في تاريخ السودان الحديث سوى رجلين يستحقان أن يشار اليهم بالبنان:
أولهما الفريق سوار الذهب الذي استلم السلطة ثم سلمها للمدنيين بعد عام كما وعد ، وثانيهما جون جارانج الذي ناضل من أجل سودان واحد مدني تقدمي، فتمت تصفية الرجل في حادث سقوط طائرة في اوغندا.
نجحت الثورة المدنية في الإطاحة بنظام البشير وكان المفترض من الثوار استلام السلطة وبقاء العسكر في ثكناتهم، حيث كان العسكر أيامها في أضعف لحظاتهم، وقد كانوا جنداً للبشير في تنفيذ الأوامر بقتل الثوار، وكانوا كذلك لا يفقهون في السياسة، ولكن التكنوقراط حمدوك سمح لهم بتولي جزء من السلطة ثم انقلبوا عليه بعد تمكنهم منها، ومنذ انقلابهم على حمدوك وحتى هذه اللحظة كانوا يناورون للبقاء في السلطة، ومن بين ذلك الاتفاق الإطاري الذي عقدوه مع بعض قوى الحرية والتغيير الذين يتمتعون بالنوايا الحسنة.
انفجر الوضع في السودان نتيجة وجود رأسين في القمة أحدهما البرهان الذي يرأس الجيش والآخر حميدتي الذي يرأس قوات الدعم السريع ، وفي العالم الثالث لا يمكن وجود جيشين لأن النتيجة ما نراه اليوم، بينما يمكن ذلك في العالم الأول، في الولايات المتحدة مثلاً نجد أكثر من جيش دون مشاكل تذكر.
حاول البرهان دمج قوات الدعم السريع وأعطاهم فرصة سنتين ولكن حميدتي طلب عشر سنوات، فهو يتمتع بالقوة والمال ولن يستغني عن ذلك بسهولة ، بينما نجد أن جيش دولة بأكمله قد تم حله بجرة قلم عندما قام بريمر بتوقيع مرسوم حل الجيش العراقي.
حميدتي يدفع لجنوده رواتب سخية لضمان ولائهم فهو مستقل مالياً عن الجيش، بينما البرهان يتحكم في مقدرات الدولة كلها ، ولا يدور في خلد أحدهما أن الرصاص الذي يطلقه والوقود الذي يستهلكه ليس ملكاً شخصياً له بل هو ملك الشعب السوداني ، ولو كان هناك ذرة من ضمير لدى الاثنين لتقاتلا بالعصي وسكاكين المطابخ ، ولكن رب ضارة نافعة ، فسوف تكون هذه هي المرة الثانية التي سيكون الطرفان فيها في أضعف لحظاتهما بعد انتهاء القتال.
على قوى الحرية والتغيير أن لا تقف مكتوفة الأيدي تتفرج على مايحدث وعليها أن تهيأ نفسها لاستلام السلطة وترجع العسكر الى ثكناتهم ، وعليها بداية أن تتوحد دون أنانية ودون حسابات حزبية ضيقة، إذا كان يهمها مستقبل السودان. عليها تشكيل حكومة سياسية تخلو من العسكر وتعيين وزير دفاع مدني، وتعلن أنها هي الحكومة الشرعية للبلاد وتطلب من المتحاربين إنهاء القتال والعودة الى الثكنات ، وعليها إحالة جميع من تورطوا في الحرب الى التقاعد تمهيداً لمحاكمتهم على ما اقترفوه منذ انتصار الثورة قبل أربع سنوات من قتل للمتظاهرين وانتهاء بالأحداث المأساوية الحالية ، بعد استتباب الأمر فإن لم ينصع الطرفان الى طلب الحكومة الجديدة عليها أن تأمر بإعلان العصيان المدني في عموم السودان.
رسالة واضحة للعسكر أنه كفى ما حدث وكفى تحكم فئة محدودة في مستقبل شعب بأكمله، فالسودان اليوم يقف على مفترق طرق: إما يظل حكم العسكر سارياً وما سيتبعه من تقسيم للسودان والبقاء في دوامة الصراع والنتيجة استمرار الفقر والجوع والحرمان والمعاناة.
أو بدء الطريق الى المستقبل الذي تأخر كثيراً.
فمن يقرع الجرس؟
وسوم: العدد 1029