بعد 11 عاماً… هل كُتبت شهادة وفاة الربيع العربي؟
عندما قامت ثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها في تونس، كان الأمر أشبه بتحقق المستحيل، إذ كانت الشعوب التواقة إلى عبير الحرية ترى أن زوال الأنظمة الاستبدادية الشمولية التي حكمت بالحديد والنار، أمراً سوف يستغرق العمل عليه دهرا طويلا.
الاستبداد كان قد بلغ ذروته في البلدان العربية، والشعوب تئن من وطأة الفقر والظلم الاجتماعي وفساد السلطة وتبعيتها للغرب، وعانى كل من لم يسر في ركاب السلطة مهما كان توجهه ومشربه الأمرّين، لذلك اجتمعت الكلمة على الإطاحة بالأنظمة القمعية، لبدء التحول الديمقراطي، لتحكم هذه الشعوب نفسها، وتمارس حقها في تعيين ورقابة وتقويم من يحكمونها.
لم تكد هذه الشعوب تستفيق بعد من نشوة الظفر والتطلع في إعجاب إلى مشهد الثورة، حتى انطلقت موجات الثورة المضادة، التي قادتها قوى الظلام الداخلية، برعاية إقليمية ومباركة غربية، من أجل وأد التحول الديمقراطي، الذي جعل لقوى الإسلام السياسي وضعا مقلقا لهذه الدول.
اعتمدت قوى الثورة المضادة، كما هو معلوم على آلة البطش، انقلابات عسكرية تطيح بالحكم المدني، حكام يقتلون شعوبهم ويستعينون على استئصالها بقوى خارجية، ودول يتعثر مسارها السياسي بسبب تدخلات إقليمية لوأد التجربة الديمقراطية، وأخرى تضافرت من أجل إجهاض ثورتها ميليشيات وشبكة مصالح داخلية مع أنظمة عربية رأت في تدفق الروح الثورية خطرا على بقائها.
حتى هذا الحين كان حديث الشعوب الثائرة عن الثورات المضادة يدور في فلك طبيعة الثورات، التي تأخذ شكل موجات، تهدأ ثم تعاود اندفاعها، وأن هذه لم تكن سوى الموجة الأولى التي لها ما بعدها، لكن هذه النبرة بدأت تتلاشى بعد مضي 11 عاما على انطلاق ثورات الربيع، وبرزت نبرة أخرى، الحديث حول شهادة وفاة الربيع العربي. لهذه النظرة ما يبررها قطعا من الأحداث التي وقعت على مدى هذه السنوات العجاف، فالشعوب العربية ازدادت فقرا، فهي تعاني من الفقر الغذائي والمائي وتدهور مجالات الصحة والتعليم، أكثر من أي وقت مضى. ازداد القمع وكبت الحريات، وكممت الأفواه وتعمقت الطبقية في هذه المجتمعات، وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، التي كانت القضية المركزية للأمة، وهرولت الحكومات العربية تجاه التطبيع. لقد أعلنت الأنظمة الديكتاتورية والشمولية والعسكرية انتصارها على شعوب ثورات الربيع، وتعززت في أكثر هذه البلدان حتمية وجود الحكم العسكري، وظهر أنه لن يُسمح بأي محاولة لإنتاج حكم مدني ديمقراطي في تلك البلاد مرة أخرى. لقد انخفض سقف طموحات هذه الشعوب من إزالة الأنظمة القمعية، إلى أمور أكثر أهمية بالنسبة لها، تتلخص في تخلص بلادهم من شبح الحروب الأهلية، التي أتت على الأخضر واليابس، وخلّفت أعدادا ضخمة من القتلى والجرحى والثكالى واليتامى والمشردين، أو الخروج من مقبرة الفقر المدقع الذي جعلهم في صراع يومي مرير من أجل القوت. لقد أصبحت أمنية أعداد ليست هينة من شعوب ثورات الربيع، أن تعود بهم الأيام إلى ما قبل ثورات الربيع، باعتبارها حقبة من الجحيم أهون بكثير من الجحيم الراهن، والبعض منهم يترحم على الحكام الذين قاموا بالثورة عليهم، ونتائج المقارنات بين ما قبل وما بعد الثورة غالبا ما تكون لصالح ما سبق.
لقد أسفرت هذه الجولة إما عن أنظمة استبدادية استقر لها الأمر على مبدأ السادة والعبيد، وأسلوب العصا والجزرة، وأحيانا العصا بلا جزرة، وقامت بتحييد كل العناصر المؤثرة والقوى ذات القدرة على التثوير في تلك الدول، وأحكمت قبضتها على البلاد ومؤسساتها الصلبة، وإما عن بلاد مفتتة من الداخل، تعاني الاقتتال الداخلي، لكل طرف فيها من يدعمه من القوى الإقليمية والدولية، أو أخرى يحكمها نظام وحشي يبيد شعبه، ويجلب الجيوش وآلات الدمار من خارج الحدود لقمع هذا الشعب.
إن القول بوفاة الربيع العربي له ما يبرره، فالأحوال الراهنة توحي بأن الشعوب منهكة، نائية عن أية تطلعات ثورية يمكن أن تجرها إلى مصير أكثر بؤسا مما هي عليه اليوم، ترى أن الأنظمة استوعبت الدرس جيدا، وأنها باتت أكثر حذرا واستعدادا للتعامل مع أي بادرة تمرد أكثر من أي وقت مضى. وعلى الرغم من ذلك، قد حفرت ثورات الربيع في ذاكرة الشعوب، وسوف تظل فكرة التحرر من الاستبداد راسخة في أذهان الجماهير، على طريقة «ما حدث من قبل، يقبل التكرار»، لكن ربما مخاوف تلك الشعوب تجعل الثورة، فكرة يتم إرجاؤها إلى حين اكتمال مقوماتها وأدواتها، ولو على سبيل التمني لا التخطيط. لقد تشكلت من جديد فكرة ضرورة بناء الإنسان قبل بناء الدولة، والتركيز على الثورة على الاستبداد الداخلي قبل الثورة على الاستبداد العام، ورغم أن هذا المنطق تعترضه عقبة تربّص المستبدين بوعي الجماهير، إلا أنه لا بديل عنه، فقد كان الدَّخَن في الأمة مستترا، وظهرت أمراضنا بوضوح مع هذه الأحداث الجسام، ولذا تتحمل النخب السياسية والثقافية والعلمية الحريصة على أوطانها، مسؤولية النهوض بوعي الجماهير، واتباع سياسة النفس الطويل في التغيير، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 1029