الوضع بسوريا ودمشق وريفها
في أحدث تقرير
في سوريا تشعر بطعم الموت في كل لحظة وفي كل ثانية، الحياة والوفاة يترافقان فلا يدري المرء أيهما سيقابله في الطريق، وأيهما سيسبق إليه ويقترب منه ويستأثر به ولا ينجيك البقاء في بيتك، ولا تأمن من المشي في الشارع، ولا يحميك من الأذى المكوث في مكان تظنه آمناً، فالمناطق كلها سواء، والانفجارات لا تميز بين حي وآخر، وشظية صغيرة قادرة على الانتقال مسافات طويلة، ويمكنها قتل الرجل الكبير وهو جالس في داره. وفي بعض مناطق سوريا يموت الفرد فلا يستطيع أهله استخراج شهادة تثبت وفاته، ولا يحظى -أحياناً- بقبر يؤويه إلا زاوية في بستان أو في حديقة الدار، وقد لا يجد عيناً تبكيه، فجميع الناس في المحنة سواء والخطب كبير. في سوريا استوى الموت مع الحياة، وحين يستويان يتجرأ الناس على مجابهة الصعاب ويذوب خوفهم فتراهم يمارسون حياتهم الطبيعية! تسقط القذيفة في ساحة العباسيين إحدى الساحات الرئيسية في مدينة دمشق، فيموت بعض الناس ويصاب بعضهم الآخر، ويسحب الإسعاف المصابين... وبعد دقائق قليلة تعود الحياة لما كانت عليه. دمشق تعيش في تناقض غريب، شوارع خالية ومدن خاوية في طرف وعلى طرف الأوستراد شوارع مزدحمة ومدن مسكونة فيها الرائح والغادي، وفي المدينة ذاتها أحياء مدمرة بالكامل وأحياء عامرة، حيٌ طبيعي يبيع الناس فيه ويشترون ويتنزهون، وفي الحي المجاور له يُحاصرون ويجُوعون ويُقتلون. أكثر الرجال باتوا بلا عمل ولا مورد، والأسعار في غلاء، حتى المنتجات المحلية أسعارها خيالية. وأصبح بعض الطعام من الكماليات، الكهرباء تنقطع 12ساعة متواصلة، والغاز أصبح ذكرى جميلة، فصاروا يخترعون ويبدعون وسائل جديدة لتجاوز الأزمات وتأمين الضرورات، وعادت الحياة في سوريا إلى بساطتها القديمة، وابتعد الناس عن التفاخر بالمظاهر والماركات. الناس معكتفة في دورها لا تخرج إلا لضرورة ملحة، وأكثر ما يخرج الناس من أجله هو الدفن والعزاء، كل يوم يُودعون شهيداً أو أكثر. وبعد المغرب تفرغ أكثر الطرقات، واقتصرت أحاديث الناس عن المآسي والحرمان، فهذه بيتها تهدم وسُرق، وهذه دخلت قذيفة من شباك البيت فقطعت أصابع ابنتها الصغيرة وجربوا وَصْلَها في المشفى ولم تستعاد.. شوارع كثيرة أغلقت، والانتقال من حي إلى حي يستغرق ساعتين، والمشي أصبح أسرع وأسهل. الحواجز التي تملأ الشوارع، والقائمون عليها يختلفون؛ وفي المناطق الراقية يُعاملون المارة بشيء من الاحترام، وفي المناطق الشعبية يعاملونهم بكل ازدراء. وقد يقف المرء ساعة ونصف الساعة ليمر على حاجز واحد، ويضعون بين كل حارة وحارة لجان من الطائفة العلوية ومن الإيرانيين وحزب الله ويتسلحون بالسواطير. في بعض الأحياء المستهدفة هَبّطوا بيوتا على أهلها وهم في داخلها بلا إنذار ولا تهديد مسبق وكأنه زلزال، فملأت رائحة الموت المكان، وانتشر الذعر، وسال الدم في الطرقات كما سال أيام المغول والتتار، وكان أهل الشام يستدلون على بيوت بعضهم بعضاً بأسماء الشوارع والدكانين، وباتوا اليوم يستدلون بأسماء الفروع الأمنية وأماكن التفجيرات. أتباع النظام يدقون على بعض البيوت الفارغة يوماً أو يومين فإن لم يجدوا أهلها فيها أسكنوها الشبيحة، بل أخرج النظام بعض أهل حي الميدان والزاهرة من بيوتهم قسراً وعلى حين غرة وأسكن فيها أعوانه، واستأجر بعض البيوت الفاخرة المشرفة على الفروع الأمنية غصباً عن أهلها. أصبح الناس يعيشون بالبركة وإذا خرجوا لا يدرون إن كانوا سيعودون سالمين، أصبح التخطيط خارج قدراتهم وطاقتهم، ولا يدرون ماذا يحدث بعد ساعة، فالخطف مألوف والفدية غالية. والاعتقالات والمداهمات لم تتوقف. ثانياً- "ريف دمشق" في آخر تقرير وفي "قدسيا" هدموا المحلات التجارية الرئيسية في مدخل البلدة ودمروا بيوتها القريبة وشردوا سكانها، وما زال بعض الأهالي مصرين على البقاء في البلدة وعدم مغادرتها مهما ضاق بهم الحال. وفي "دوما" شرق دمشق دُمرت البنية التحية، وخلت بعض المناطق من الماء والكهرباء والاتصالات وهجرها الناس، ثم رجعوا للحياة هناك... وأين يذهبون وأكثر المدن محاصرة؟ والخروج من سوريا مكلف وصعب، وأحياناً يكون من المحال؟ فأكثر البلاد العربية والأجنية أقفلت أبوابها أمام الشعب السوري، وأكثر الذين خرجوا ذاقوا الويلات، فرجعوا، وبدأت الهجرة العكسية لسوريا رغم اشتداد الصراع. وأما في برزة على الطرف الشرقي من دمشق فالحواجز خطيرة للغاية والمرء معرض للموت الحقيقي إذا مر عليها، وأخطرها تلك الحواجز الطيارة التي تظهر فجأة في وجهك فلا تعرف هل هو حاجز رسمي للنظام فتقف له وتمتثل؟ أم هو من حواجز زبانيته وأعوانه المنتفعين فتفر منه فرارك من المجزوم؟! الحواجز الطيارة في برزة يقوم عليها فتية من منطقة "عش الورور" المجاورة، وهم من الذين يستغلون تدهور الوضع الأمني في العاصمة فيسطون فجأة على السيارات ويختطفون راكبيها ويطالبون أهلهم بفدية عالية، وسواء أدفعوها أم رفضوها، لا يعود المخطوف إلى ذويه في نصف الحالات، ويصبح في خبر كان. رغم الظروف القاسية والمذابح والأهوال تَعّود الناس على الحال، وقد أثبت الإنسان أنه أقدر المخلوقات على التحمل والتأقلم مع الأوضاع، فترى الناس يدخلون ويخرجون ويعملون ويتزوجون وينتشرون في الشوارع والأسوق، ومنهم من يأخذ طريقه للأماكن المحاصرة رغم المخاطر والصعوبات. ويغتنم بعض الداعمين والناشطين الفرصة ويدخلون في معيتهم، وهؤلاء يأتون من كل مكان بسياراتهم، فإذا اقتربوا كيلاً من الأمكان المنكوبة صفوها ومشوا على أقدامهم لأن دخول الحافلات ممنوع. مروة فتاة جريئة دخلت مع الداخلين إلى "مخيم اليرموك" حاملة بعض الطعام والشراب، وهمها تفقد الوضع والاطمئنان على الناس، دخلت فأذهلتها مناظر البؤس والشقاء وحكايا المآسي والآلام فتأخرت وهي تمسح الجراح وتتابع أخبار الجوعى والثكالى واليتامى... وانتصف النهار فانتبهت وأرادت الخروج فاستحال عليها ذلك وقد تسلق القناصة فوق الدور والبنايات. الخروج من الأماكن المحاصرة بعد اصطفاف القناصة هو أشبه شيء بمحاولة النجاة داخل قارب مطاطي مثقوب في بحر لجي من فوقه موج هائج، ولكن الفتاة كانت مضطرة إليه وموتها كان أهون عليها من البقاء، فأهلها لا يعلمون أي شيء عن نشاطها، ونار القناصة أخف على رأسها من سياطهم ولومهم! رحلة الخروج استغرقت ساعات في مسافة لا تتعدى ثلاثة كيلو مترات، وبدأت الفتاة رحلتها بصلاة ركعتين والشهادة والاستغفار، وكتابة وصيتها، وتزويد الشباب بياناتها ورقم أهلها... فكل خارج مهدد حقاً بالموت، ورصاص القناصة يصيب الذبابة الطائرة، والخروج يحتاج للحذر والتخطيط ولخبرة بعض الشباب الذين مضوا بها في طريق صنعه الجيش الحر بتكسير الحوائط بين الأبنية، فيمرون من بناء لبناء آخر، وبعض الأبنية متباعدة، فيضطرون للانبطاح على الأرض والتدحرج إلى الجهة الأخرى. مضت الفتاة خلف الشاب وهو يكرر نفس الكلمات كلما مر على مفترق طريق: "تشهدي فنحن في خطر محقق وتوقعي الموت"، يحذرها فتنحني وتزحف خلفه والرصاص يؤز أزاً، يمر من فوقها وعن يمينها وشمالها، ويخرق صوته سمعها، وتتابع المسير، ويسألها دليلها كل قليل: "هل ندمت فنرجع؟"، فتتابع إصرارها على متابعة المسير. مشوا ساعات، بين الحطام والهدم، وتحت الأصوات، والقناصة فوق البيوت يضربون والموتى يسقطون والمصابون يئنون... حتى قالت الفتاة: "كدت أصاب بانهيار، وليس من رأى كمن سمع، كانت مغامرة مخيفة بلغت فيها القلوب الحناجر". وأضافت: "في تلك اللحظات يتقين الإنسان أنه لم يبق له إلا حقيقة واحدة، هي الموت، وصدق من قال: أصبح رغيف الخبز مقابل الحياة". خرجت الفتاة بسلام. ولكنها كانت المرة الأخيرة، فالنظام أحكم الحصار على الغوطة الشرقية وجنوب العاصمة، وبنى سواتر ترابية لعزلها جيداً ومنع الدخول والخروج نهائياً، وحين تشتد الأوضاع يشفق المحسنون على المحاصرين فيشترون الحاجز بمليون ليرة لثلاث ساعات فقط، ثم يُدخلون الشاحنات المحملة بالإغاثة، وقالوا: "تدخل ولا يمكنها الخروج من بعد، فتحتاج كل شاحنة لسائق فدائي يرضى بالعلوق في الداخل مع المنكوبين". المناطق المحاصرة في دمشق واسعة، وفيها أعداد كبيرة من الجائعين والمهددين بالموت، قَدَّرتها الفتاة عددهم بمئة ألف يزيدون أو ينقصون في المناطق الجنوبية وحدها (كمخيم اليرموك والحجر الأسود)، وفي الغوطة الشرقية ما يقارب هذا العدد وهي محاصرة بشكل محكم تماماً، والنظام يطبق عليها بشكل قوي. هذه قصة مروة، أما عليا فكانت مضطرة للخروج إلى "الزبداني" غرب دمشق لإيصال المال، أخذت رفيقتها ومضت معها، الطريق إلى الزبداني بدا لهما طويلاً وشاقاً وممتلئاً برائحة الموت وصمت القبور، الشوارع فارغة، والمصايف مهجورة وشكلها مخيف ومرعب، قطعت مع رفيقتها أربعة عشر حاجزاً في طريق سفري خال من السيارات والحافلات، مظاهر الرهبة تحيط بالمكان، وعلى كل حاجز رجال غلاظ، لا يعصون النظام ما أمرهم، ويُتوقع منهم كل شيء. امتلأ قلبها بالخوف، ولكن أمورها تيسرت حتى وصلت إلى الحاجز الأخير، مد الضابط يده وطلب منها النزول، فتش كل شيء وفتح كل شيء، وفتش حقيبتها تفتيشاً دقيقاً، وغفل عن حقيبة رفيقتها الممتلئة بالمال والمرمية خلف المقعد بإهمال. وصلت الفتاتان إلى الزبداني بأمان، ولكن بدأ مع قدومها القصف العنيف، لا يمر يوم إلا وتقصف فيه البلدة والقصف كل يوم هو في شأن وكان يومها فظيعاً حارقاً، ولكنها أخذت قرارها بإنجاز مهمتها والعودة قبل المساء، وحين انتهت وضعت رجلها على دواسة البنزين وانطلقت بسرعة هائلة باتجاه الشام. أما ياسر ورفاقه فقرروا الهروب إلى بيروت بعد اعتقال زميل لهم، فلما وصلوا إلى الحدود اعتقل النظام واحداً آخر منهم، سحبوه من بينهم فجأة فظن أنه الفراق ونظر إليهم مستجيراً مستنجداً، فتقدم أحد الرفاق وحاول استعطاف الضباط ورشوته مبالمال والمجوهرات، فعموا وصموا عن قبولها وتعففوا عن قبضها، وكانت النزاهة غريبة على أمثالهم وعلى الوضع الذي تعود عليه الناس. واضطر الرفاق للمغادرة ولم يستطيعوا فعل أي شيء سوى النحيب والبكاء، فنظرات زميلهم المعتقل لم تغب عن بالهم أبداً بقية الطريق. وقطع الرفاق الحدود ودخلوا بلداً جديداً آمنا وما زالت رهبة الموت والقنص والاعتقال تطاردهم، فما يحدث في سوريا ليس بقليل وقصص المعاناة كثيرة، وإن للأمان طعماً رائعاً لا يعرفه إلا من حُرم منه.