هل نحن أولاد شوارع
د. فيصل القاسم
لا شك أن الذي أطلق مصطلح "الشارع العربي" على الرأي العام العربي كان موفقاً للغاية في توصيفه. فكلمة "شارع" في ثقافتنا العربية لها مدلول سيء وتحقيري، فغالباً ما نصف المنحرفين والشاذين والساقطين من الأشخاص بـ"أولاد شوارع".
ولا أبالغ إذا قلت إن ذلك التوصيف ينطبق خير انطباق على موقف الشارع العربي حيال الكثير من القضايا، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والعدوان الصهيوني الفاشي على لبنان وغيرهما من المسائل الخطيرة. ماذا يمكن أن نقول عن هذه اللامبالاة وهذا الصمت العربي غير أنه شاذ ومنحرف وساقط؟ فعلاً إنه شارع غريب وعجيب. ولا أدري لماذا تثور ثائرته أحياناً عندما يعتدي أحد على بعض المقدسات، كما حدث في "انتفاضته" ضد الرسومات الدنماركية المسيئة للإسلام والمسلمين، وهو أمر مشروع، ولا يحرك ساكناً في وجه الظلم والطغيان الداخلي أو العدوان الخارجي الذي يتهدد العرب أجمعين؟!
إن الصمت العربي الرهيب إزاء محنة الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين وقضايا مصيرية أخرى يجعلنا نضع ألف إشارة استفهام واستفهام حتى على هبته الأخيرة في وجه الرسام الدنماركي...
هل كانت الشعوب العربية ستتحرك وتصرخ في الشوارع وتحرق المباني وتقاطع المنتوجات الدنماركية لولا أن بعض الجهات حركتها لغاياتها السياسية الخاصة؟ للأسف فإن الإجابة "لا". وهذا يدل على أن ما يسمى بـ"الشارع العربي" ليس أكثر من ألعوبة تستغلها الأنظمة في بعض المناسبات لإيصال رسائل سياسية، وعندما تصل الرسائل يعود الشارع العربي، أو بالأحرى، يُعاد، إلى "سقوطه" و"انحرافه" و"شذوذه" عن بقية شوارع الدنيا الحية والمستقيمة والأبية. هل لدى شارعنا "ثائرة" فعلاً كي نتحدث عن ثورتها بين الحين والآخر، أم أنها قابلة فقط للتثوير وليس للثوران ذاتياً؟
لم يتغير الشارع العربي منذ اجتياح بيروت عام 1982، ولا أعتقد أن تزامن الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية وقتها واجتياحه لقطاع غزة وقطع المياه والكهرباء والغذاء عن كليهما لهما علاقة بمباريات كأس العالم التي شاءت الأقدار أن تجري في نفس الوقت. ولا أعتقد أن إسرائيل أو أمريكا توّقت عدوانها علينا مع أحداث مهمة لتحويل انتباه الشارع العربي عن جرائمها وفظائعها. واعتقد أن من الخطأ أن يحاجج البعض بأن إسرائيل وقتت اجتياح لبنان عام 82 مع بطولة كأس العالم كون العرب مشغولين بالكرة. فحتى لو اجتاحت الشارع وهم يتدرب على القتال لما حرك ساكناً ضدها. فلننس تلك الحجج السخيفة إذن!
هل ننسى أن المظاهرات العارمة الوحيدة التي خرجت احتجاجاً على الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 كانت في واقع الأمر في تل أبيب داخل إسرائيل، وليس في أي بلد عربي، عندما نظمت حركة "السلام الآن" مظاهرات كبيرة بعشرات الألوف، وطالبت رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها مناحيم بيغن بالانسحاب من لبنان وفك الحصار المضروب عليه من كل حدب وصوب، بينما التزمت الجماهير العربية "المزعومة" الصمت المطبق، ولم تزحف لنجدة عاصمة عربية بلا ماء أو كهرباء أو طعام. واعتقد أن الجيش الإسرائيلي مدين لها باعتذار صريح لأنه ربما أفسد عليها متابعة مباريات كأس العالم وقتها، مع العلم أنها لم تأبه لإزعاجه!
كما نعتذر أيضاً من الشعوب العربية هذه المرة أيضاً لأننا طالبناها بالتضامن مع شعبين عربيين يذبحان على مرأى ومسمع منها، وهي متسمرة أمام شاشات التلفزيون، لكن ليس لمتابعة القصف الإسرائيلي لمحطات الكهرباء والطرق والجسور وخزانات المياه والمستشفيات الفلسطينية واللبنانية، مع أن الفضائيات لم تبخل عليها بنقل الهمجية الإسرائيلية على الهواء مباشرة، بل للتصفيق لرونالدو البرازيلي وهو يدك المرمى الأوكراني أو كلاوسا الألماني وهو يقضي على أحلام الأرجنتين بالوصول إلى دور النصف النهائي، أو زين الدين زيدان وهو يُخرج البرازيليين مهزومين ومبللين بالدموع من ألمانيا.
وكم كان أمجد ناصر الذي كان في بيروت وقت الاجتياح، كم كان على حق في قوله في مقال مؤثر في صحيفة القدس العربي إن: "أشهر الحصار الثلاثة الطويلة على بيروت ومن ثم اقتحامها بعد خروج القوات الفلسطينية منها ووقوع مجزرة صبرا وشاتيلا أظهرت أن قوة الشارع العربي مجرد أسطورة، أو في أفضل الأحوال، ذكرى من الماضي البعيد.
وأزعم أن كل ما فعلته إسرائيل وأمريكا والحكام العرب، لاحقا، تأسس على تلك الخبرة التي أكدت لهم غياب رأي عام عربي حي وقادر على التأثير في الأحداث".
ولو عدنا إلى "انتفاضة" الرسوم الدنماركية وموقف الشارع العربي المتذبذب من قضية إلى أخرى وانتقائيته السخيفة في الاحتجاج على حدث دون آخر لذكرتنا بـ"حكاية القاضي الدمشقي أبي سعيد الهروي الذي جاءه بعض الناجين من مذبحة بيت المقدس بعد أن اقتحمها الصليبيون يطلبون نجدته، فشد القاضي السوري الرحال إلى عاصمة الخلافة لاستنهاض همة الخليفة وهمم النخب السياسية والدينية في بغداد. ولم يترك الهروي باباً إلا طرقه للفت النظر إلى مأساة القدس ونازحيها الذين تكوموا بالآلاف في مساجد وتكايا وبيوتات المحسنين في دمشق، ولكنه لم يحظ باهتمام حقيقي، فقد كان قوم تلك الأيام منقسمين على أنفسهم، مثلنا اليوم، ومنشغلين، مثلنا كذلك، في سفاسف الامور، فعمد أبو سعيد الهروي إلى القيام بفعل صارخ...
صادف وجود الهروي في بغداد شهر رمضان فطلب خطبة الجمعة في أكبر مساجد المدينة فأعطيها، فصعد إلى المنبر وبدل أن يخطب في الجمع المحتشد أخرج من صرة كانت معه طعاماً وراح يأكله ببطء أمام ذهول المصلين الذين ما لبثوا أن هاجوا وماجوا، فأوقفهم الهروي بحركة من يده وقال: تهتاجون لأن رجلا أفطر في رمضان ولا تهتاجون لسقوط القدس والمسجد الاقصى!"
هكذا حال الشارع العربي منذ قديم الزمان، على ما يبدو، فهو مستعد لأن يقيم الدنيا ولا يقعدها ضد كاتب مسكين متهم بالتجديف، ويهدده بالويل والثبور وعظائم الأمور لأنه كتب بضع كلمات قيل للشارع، الذي لم يقرأها، إنها مسيئة للدين، فانفجر الناس وساروا غاضبين في الشوارع، بينما لا نراهم يحركون ساكناً عندما تدنس القوات الإسرائيلية ساحة المسجد الأقصى وتعتدي على المصلين وتدوسهم تحت أحذيتها الثقيلة، أو عندما تجتاح مدناً فلسطينية بأكملها وتحرمها من النور والماء والخبز وتزرع القتل والدمار والدماء في كل زاوية وشارع، أو عندما تغتصب القوات الأمريكية الفتيات العراقيات وتذبح أهاليهن بدم بارد في وضح النهار وتسوي مدناً برمتها بالأرض، وتدمر المساجد التاريخية وتدوس على كرامة المصلين فيها وسجاجيد الصلاة، أو عندما تمطر آلة العدوان الإسرائيلية مدن لبنان وقراه بأكثر من ثلاثة آلاف صاروخ وقنابل محرمة دولياً قدرها العسكريون بأنها كانت بحجم القنبلة النووية التي أسقطها الأمريكان على هيروشيما. هل كفــّر الشارع العربي عن ذنوبه تجاه لبنان وفلسطين بـ"شوية" مظاهرات بائسة لا تسمن أو تغني من جوع؟
إن حال الشارع العربي يذكرني بطالب عربي كان يدرس معي في الجامعة في بريطانيا، فكان صاحبنا يمضي جل وقته في الخمارات ونوادي الرقص والنقص، ويحول الليالي السوداء إلى حمراء، لكنه ما إن كان يرى زميلاً له يتناول طعاماً يحتوي على نثرات من لحم الخنزير في مطعم الجامعة حتى ينهال عليه بالشتائم والسباب والتأنيب والصراخ، مما كان يجعل الطلبة البريطانيين على الموائد المجاورة يعتقدون أن المشتوم ربما قد تسبب في كارثة كبيرة. وكم هم مخئطون، فلو كان جرمه من النوع الخطير جداً لما ثارت ثائرة زميلنا عليه، ولما جمع مرتادي المطعم حوله، بل لتجاهله، تماماً كما يفعل الشارع العربي عندما يهب عن بكرة أبيه ويحرق الأخضر واليابس للانتقام من رسام سخيف، بينما لا تهتز له شعرة دفاعاً عن القضايا الكبرى!!!
لا شك أن الشارع العربي، حسبما نراه من ردود أفعال إعلامية إزاء العدوان الصهيوني على لبنان وفلسطين ومن قبله على العراق كي لا نظلمه، شارع عروبي وإسلامي حتى النخاع. لكن لا يكفي أبداً أن تكون عواطفنا قومية وإسلامية، يجب علينا أن نترجم تلك العواطف إلى أفعال وطنية، داخلياً وخارجياً كما فعلت معظم شعوب الأرض من قبلنا، وإلا ستبقى مشاعرنا مجرد شيكات بلا رصيد.