الثَّورة السُّوريَّة والملفَّات «الشَّرق أوسطيَّة»
الثَّورة السُّوريَّة
والملفَّات «الشَّرق أوسطيَّة»
د. محمد عناد سليمان
لم تبتعد السِّياسة الدُّولية في التَّعامل مع «الثَّورة السُّوريَّة» عن نهجها الخارجي في تناول الملَّفات السَّاخنة في منطقة «الشَّرق الأوسط»، وأعتقد جازمًا أنَّ من يرى استقلاليّة «الملَّف السُّوريّ» وانضواءه في قوقعة منفردة هو واهم، مَثَلُه في ذلك مَثَل من يرى «المؤامرة الكونيَّة» على المنطقة خاصَّة، وعلى «العرب» عامَّة.
فالملف «النَّووي الإيرانيّ» يأتي في مقدّمتها، ولم يكن وليد اللّحظة التي وصلت إليها «الثَّورة السُّوريَّة»، وإن لم يكن بعيدًا عن اتصال مباشر وغير مباشر بها، فالسِّياسة «الإيرانيَّة» التي اعتمدت في سنواتها العشرة السَّابقة على العداء الظَّاهر لـ«لغرب»، وفي مقدِّمتها «الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة»، في محاولة منها لأن تكون ندًّا حقيقيًّا، وجعلها قوَّة عُظمى في منطقة «الشَّرق الأوسط»، أثبتت فشلها، في ظلِّ الحرب الباردة مع المجتمع الدُّولي، ولم تنجح محاولة حصولها على سلاح ذريٍّ يجعلها في مقدِّمة الدُّول المسيطرة في المنطقة.
إنَّ الاتفاق الدُّولي على الملف «النَّوويّ الإيرانيّ» يُثبت وبشدة قدرةَ «الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة» من خلال الوسائل السِّلميَّة والعقوبات التي فرضتها على «إيران» أن تحقِّق ما لم تحقِّقْه قوَّة السِّلاح في «أفغانستان» وغيرها، ولا أظنُّها تبتعد كثيرًا في سياستها من خلال نظرتها وتعاطيها لـ«لملّف السُّوريّ»، حيث استطاعت أن تجبر «النِّظام السُّوريّ» على أن يتخلَّى عن سلاحه «الكيماويّ»، وإن كان جزئيًا ولم يكلفها ذلك قطرة دم واحدة، أو إطلاق قذيفة واحدة، في إشارة واضحة إلى عمق الاستراتيجيّة الخارجيّة للسّياسة «الأمريكيَّة»، وهو أمر ليس بالغريب على وزير خارجيتها «جون كيري» صاحب الخبرة بالمنطقة، وبعْجِ ساستها وسياساتها.
ولا نكترث كثيرًا فيما يُنشر على الصُّحف الرَّسميَّة التي تصدر عن الحكومة «الإيرانيَّة»، التي تحاول من خلال سياستها الإعلاميَّة الدَّاخليَّة والخارجيَّة أن تصِّور نفسها منتصرة في هذه الحرب، وهي عادة من يكتب التَّاريخ بيدِه، فلا يمكن أن يصف نفسه بالمهزوم، وإن كانت الهزيمة ظاهرةً ظهور الشَّمس في رابعة النَّهار، كما حدث في حرب «تشرين» عام 1973م، وفي غيرها ممَّا يسمَّى «انتصارات العرب الحديثة».
ولا شكَّ أنَّ قدوم «حسن روحاني» إلى السُّلطة قد ساهم إلى حدِّ كبير في تجاوز كثيرٍ من المعضلات التي كان تقف حجر عثرة في تجاوز الملَّفات العالقة وأهمُّها «الملف النّوويّ»؛ لأنَّه وحسب كثير من المحلِّلين فإنَّ «روحاني» يتَّسم بالجنوح إلى الانفتاح على الغرب، على عكس سابقه «أحمدي نجاد» الذي عرف عنه التَّشدُّد ضدَّ «الغرب»، ولعلَّ ذلك يرجع إلى الثَّقافة السَّائدة والمعتمِدَة على «المؤامرة الكونيَّة» بقيادة «الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة» ضدَّ «الإسلام» وأهله؛ بل إنَّني أرى أنَّ «المؤامرة الكونيَّة» هي ضدَّ ما يتعارض مع المصالح، وعند توفرها وتحقيقها فلا نظر حينها إلى مذهب أو عقيدة من يحقِّقُها، وقد غلب مثل هذا الفكر القائم على أنَّ ثمَّة تعاونًا سرّيًا بين «الولايات المتَّحدة» و«إيران»، واستحوذ على عقول كثير من «النُّخبة المثقَّفة» التي ترى في الفكر جمودًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو أشد خطرًا من المؤامرة نفسها إن وجدت، فالعقل والفكر يتغيَّر بتغيّر الظُّروف والمعطيات، خاصَّة في السَّياسة، فلا ثوابت مطلقة فيها، فمن يكون عدوًا اليوم قد يصبح صديقًا، والعكس صحيح اعتمادًا على نظرية المصالح والمكاسب. وقد وجدنا مثل هذا التَّغيُّر في المسائل «الفقهيَّة الإسلاميَّة»، فكم من رأيٍ لدى «علماء الأمَّة» عدلوا عنه، بتجويزه بعد نهيً عنه، أو نهي بعد تجويز، بعد التعمُّق في المسألة والنَّظر في وجه لم يكن ظاهرًا من قبلُ.
ومن هذا القبيل ما كنَّا نراه ونسمعه من بعض هؤلاء «النُّخبة» عن العلاقة الكاملة بين «الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة» و«الاتحاد السّوفياتيّ» سابقًا، وأنَّ اتفاقات تحت الطَّاولة يتمُّ تداولها، في ظلِّ الحرب الباردة بينهما، إلا أنَّ النَّتيجة كانت تفكيك «الاتحّاد السُّوفياتيّ»، وهو ما سعت إليه «الولايات المتّحدة» في التّعامل مع الملف «النَّووي الإيرانيّ»، الذي أتى أكله بعد حرب ناعمة دامت لسنوات، تخلَّلها حصار اقتصاديّ أثقل كاهلها، ومقاطعة سياسيَّة كادت أن تعزل إيران كليًّا.
وعندما نتحدَّث فإنّنا لا ننكر على المعترض حجَّته فيما قد يحدث خلف الكواليس، ممّا لا علم لنا به، وما تقوم به أجهزة «الاستخبارات الدّوليّة» التي تعاظم شأنها، وازدادت قوّتها في منطقة «الشّرق الأوسط» خاصّة، وإنمّا نصوِّر الواقعَ من خلال المعطيات المتوفِّرة، والنَّتائج الملموسة على الأرض، وكفى بها مؤونةً لإقامة رأي ترجيحيّ ظنِّي يقتربُ من درجة اليقين.
وأرى أنَّ الملف الأكثر سخونة هو «الملف السّوريّ»، وهو ملف طارئ على منطقة «الشّرق الأوسط»، شأنه في ذلك شأن ثورات «الرّبيع العربيّ»، كما نراها بمفهومنا، لا بمفهوم المجمع الدُّوليّ الذي يرى فيها تحوّلا سياسيًّا، وأزمة داخليَّة بين «الشَّعب» و«الأنظمة القائمة»، ولا شكَّ أنَّها ورقة تضيف رصيدًا سياسيًّا لدى هذه الدُّول لتحقِّق طموحاتها، أو تستثمره للتعجِّيل في تحقيق هذه الطُّموحات.
بل إنِّني لا أستطيع من وجهة نظري أن أفصل «الملفّ السُّوريّ» عمَّا تمَّ الاتفاق عليه في «الملّف الإيرانيّ»، باعتبار أنَّ «إيران» هي القوَّة الفاعلة في الأحداث السُّوريَّة، سياسيًّا وعسكريًّا، وتكاد تكون صاحبة القرار فيه، وأكاد أجزم أنَّ اتفاقًا ما حدث من خلال المحادثات السرِّيَّة التي جرَت قبل ثمانية أشهر بين الخارجيَّة «الأمريكيَّة» والخارجيَّة «الإيرانيَّة» في سلطنة «عُمان» لإنجاز بعض التَّوافقات في قضايا «الشَّرق الأوسط»، فكان اتفاق «جنيف» فيما يخصّ «الملف النَّووي» مقدِّمة لبقية القضايا، والتي ستكون على رأسها الآن «القضيَّة السُّوريَّة»، يؤكِّد ذلك ما تلاه من اتفاق حول عقد «جنيف2» بعد الخلافات المتكرِّرة عن تاريخ انعقاده، والتَّطوّر الإيجابيّ في الموقف «الرُّوسي» من خلال دعواته لـ«لائتلاف الوطني السُّوريّ» لزيارة «موسكو» والاطلاع على ما يمكن أن يسهم في إيجاد مخرج، وحلٍّ لـ«لمآساة السُّوريَّة».
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ العجز السِّياسيّ الواضح الذي أظهرته «المعارضة السُّوريَّة» من خلال «المجلس الوطنيّ» سابقًا، و«الائتلاف» لاحقًا أسهم وبشكلٍ كبير إلى تعقيد المسألة، وإضافة حجرات عثرة في طريق الحلّ الدُّولي لـ«لملف السُّوريّ»، وهو عجز ناتج عن عدم الخبرة السّياسيَّة، والبحث عن المكاسب الشَّخصيَّة، والابتعاد عن القاعدة الشعبيَّة صاحبة القرار الفعليّ والحقيقيّ، والمنافسة على السُّلطة المؤقَّتة قبل إنهاء حكم «الطَّاغية»؛ إضافة إلى عدم وضوح منهج سياسيّ في التَّعامل مع الملَّفات الحاضرة بقوَّة في المشهد السِّياسيّ، وانتفاء مبدأ المحاسبة؛ فبعض الشَّخصيّات كانت ولا زالت ترى في نفسها أنَّها المثل الأعلى، وأنَّها الأقدر والأجدر- ولا أحد سواها- على تمثيل الشَّعب، وتحقيق متطلَّباته، فضلا عن ارتباط كثير من هذه الشّخصيِّات بدولٍ حاولت فرض سياستها على «الثَّورة السُّوريَّة »كدولة «قطر» أو «السُّعودية» أو «تركيا»، ممَّا أدى بشكل أو بآخر إلى تضارب المصالح وتعقيد المسألة، إن على المستوى السِّياسيّ، وإن على المستوي الميدانيّ.
حتى إنَّ تشكيل ما يسمَّى بـ«الحكومة
المؤقَّتة» فقدتْ ماهيتها ليلة الإعلان عن تشكيلها،
لأنَّها - كما أرى- جاءت نتيجة فرْض وإجبارٍ، ولم تكن وليدة ظروف سياسيَّة اقتضها
المصلحة العُليا لـ«لمعارضة السُّوريَّة»، وما رافقها من تدخُّل من بعض الأطراف
لفرض بعض الشَّخصيِّات من أجل تحقيق مصالح لا تتناسب مع متطلَّبات الثَّورة، وبعيدة
عمَّا تهدفه وتنشده من إسقاط «النِّظام» والإطاحة به.
ويبقى الملف الأهمّ الذي أصبح مغيّبًا نتيجة الأحداث المتسارعة التي عصفت بالمنطقة، وهو ملف «الصِّراع العربيّ الإسرائيليّ»، ولم نعد نرى أو نسمع من المعنيّين بوضع خطط السِّياسة الحاليَّة والمستقبليّة أيَّ تلميح أو تصريح يشير إلى هذا الملف، إلا بعض المتناثرات هنا وهناك، علمًا أنَّه من الأهميَّة بمكان؛ بل يكاد يكون محوريًا في تصعيد الملفّات الأخرى، أو في إيجاد حلول لها.
ولعل السَّبب في تغييبه على الأقلّ في الوقت الرَّاهن يعود إلى انشغال أصحاب الملف المباشرين بما يحدث في «سورية»، وانشغال من وصفوا أنفسهم بمحور «الممانعة والمقاومة» لعقود من الزَّمن لتحصين أنفسهم في مواقعهم السِّياسيَّة والسِّياديَّة، وإن كان على حساب شعوبهم، وتدمير بلادهم؛ إضافة إلى صمت الطَّرف الآخر وهو «إسرائيل»؛ باعتبار أنَّ ما يحدث يصب في مصلحتها، وإن كانت من وجهة نظري تمسك بطرف خيط لجميع الملَّفات في منطقة «الشَّرق الأوسط»، ممَّا يجعل لها دورًا فيها، سلبًا أو إيجابًا، وإن كنَّا نتحدَّث عن الجوانب الإيجابيَّة؛ لأنَّ الحالة الرَّاهنة تستوجب البحث عن الحلول، والابتعاد عن أيِّ تصعيد، من شأنه أن يؤدِّي إلى تأزيم وتعقيد هذه الملفَّات.