التنديد والشجب بين النفاق والجبن وضعف ذات اليد
وأنا أتساءل عن دلالة تصريحات عدد من المسؤولين بمختلف دول العالم، وإصدار عدد من الأحزاب والهيئات وحتى بعض الجمعيات لبيانات التنديد والشجب، ضد ممارسات بعض الدول والحكومات التي تَعتَبِر نفسها فوق القانون وفوق كل محاسبة، بَحَثْتُ في الدلالة اللغوية لمصطلحي التنديد والشجب، وتبين لي من خلال معجم المعاني أن: التنديد بالشّخص يعني التصريح بعيوبه، والتشهير بها، وفضحه علانية، أما شجب موقفه فيعني استنكاره، وفي كلتا الحالتين يبقى السؤال مطروحا بخصوص الأثر العملي لفعلي التنديد والشجب.
يبدو من خلال مجموعة من المؤشرات، أن بيانات التنديد والشجب في حالات كثيرة تتناغم مع التعريف اللغوي، لتكون بذلك عبارة عن التعبير عن الإحساس بالذنب اتجاه قضية من القضايا، في نفس الوقت الذي تؤشر فيه عن الضعف وعدم القدرة على الفعل، ومن ثم تصبح عبارةً عن لغوٍ لا جدوى ولا فائدة ترجى منه على أرض الواقع. قلت على الرغم من هذه المؤشرات، فإن المواقف المصرح بها من قبل مجموعة من الجهات الرسمية وغير الرسمية حيال أحداث غزة، التي يصعب إيجاد مصطلح للتعبير عن وحشيتها، وعن بشاعتها، بحيث لا يمكن لأي إنسان يتوفر على حد أدنى من القيم الإنسانية، استساغتها كيفما كانت المبررات، يمكن حصر أهمها في ثلاثة مواقف أساسية وهي كالتالي:
- موقف جل الدول الغربية التي أعلنت حكوماتها، وطيف من شعوبها، مساندتها الفعلية اللامشروطة للعدو الصهيوني، في نفس الوقت الذي ندد فيه طيف آخر من هذه المجتمعات بجرائم هذا العدو الغاشم، مما أدى ببعض الدول إلى تلوين خطابها بما يتناسب مع مجريات الأحداث، كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا، التي قالت وزارة خارجيتها في بيان لها بأن "فرنسا تشعر بقلق بالغ إزاء الخسائر الفادحة التي يتكبدها السكان المدنيون الفلسطينيون جراء الغارات الإسرائيلية على مخيم جباليا، وتعرب عن تعاطفها مع الضحايا، بل قرر رئيسها تنظيم "مؤتمر إنساني" مصرحا بأن "مكافحة الإرهاب لا تبرر التضحية بالمدنيين"، علما أن دلالة هذا الخطاب لم تصل إلى حد التنديد والشجب حتى بمعناه اللغوي.
- موقف الدول العربية، التي تَراوحَ رد فعلها على مستوى الخطاب بين التنديد والتنديد بشدة، في الوقت الذي يتأرجح فيه موقفها العملي، بين لا شيء، وبين إرسال مساعدات مادية من قبيل الغذاء والدواء وما شابه ذلك، علما أن إيصالها إلى غزة مرهون بالإرادة الأمريكية الصهيونية.
- وهناك موقف ثالث، وهو الذي يتمثل في تنديد وشجب الشعوب بصفة عامة، بما فيها شعب الولايات المتحدة الأمريكية، والشعب الفرنسي، والبريطاني...، والشعوب العربية والإسلامية بصفة خاصة، بحيث بغض النظر عن الأثر الإيجابي له على معنويات الشعب الفلسطيني، فإنه يلعب دورا مهما في إيقاظ جذوة مناصرة الحق، ومعاداة الباطل في نفوس شرفاء العالم، والاحتفاظ بها متقدة إلى حين حلول الفرصة الملائمة للتجسيد الإجرائي لمقتضياتها على أرض الواقع.
إذا كانت هذه هي أهم المواقف المعبر عنها من قبل مختلف الأطراف، فما هي دلالاتها الحقيقية؟
ففيما يتعلق بشعور فرنسا بالقلق حسب تعبير وزارة خارجيتها، وحتى عزم رئيسها على تنظيم "مؤتمر إنساني"، فلا يمكن إلا أن يكونا نفاقا خالصا، وفي أحسن الحالات مَسْكا للعصا من الوسط كما يقال، حتى تتم المحافظة على مصالحها في البلدان المناهضة لهذا العدوان من جهة، واسترضاء ذلك الطيف من المجتمع الفرنسي الذي يعارض مساندتها المطلقة لإسرائيل، وما قيل بالنسبة لفرنسا ينطبق على الولايات المتحدة وعلى كل الدول التي حذت حذوها.
أما فيما يخص موقف الدول العربية التي اكتفت بتقديم بعض المساعدات المادية، واستعطاف الولايات المتحدة وإسرائيل للسماح بفتح المعابر لإدخالها إلى غزة، وهو نفس موقف عدد من الدول الغربية، فالقراءة الأقرب إلى الصواب لموقفها هذا، هو أنه تعبير صريح عن الجبن والخذلان، لقضية مركزية لكل العرب والمسلمين، خاصة بالنسبة لتلك التي تنص دساتيرها على أن دينها هو الإسلام، بحيث يصعب على المواطن العادي أن يتجرع التنصل من مسؤولية الدفاع عن المقدسات الإسلامية بهذه الطريقة الفجة، التي لا تزيد الغرب المتعالي إلا استعلاء واحتقارا لبلداننا حكاما ومحكومين.
ثم يأتي موقف شعوب العالم التي لا تملك سوى الشجب والتنديد بمفهومه اللغوي المحض، والذي يمكن أن يؤثر في سياسات بلدانها، ضمن حدود قد تضيق وقد تتسع، انطلاقا من الحسابات السياسية لقادتها، ثم موقف الشعوب العربية الذي قد يؤثر في مواقف السلطات، ومختلف الشرائح السياسية على غرار باقي الشعوب، مع استئثار الشعوب المسلمة بالدعاء لإخوانهم، وهو من أقوى الأسلحة الإيمانية في حالة العجز وضعف ذات اليد، شأنهم في ذلك شأن أولئك الذين عَرَضوا أنفسهم للجهاد مع رسول الله في الوقت الذي لم يجد ما يحملهم عليه، مصداقا لقوله تعالى في سورة التوبة ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾
وأخيرا، وبخصوص موقف التنديد الذي جاء على لسان منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة الأمم المتحدة، والذي لم يأت إلا بعد الهجوم على مخيم جباليا، فلم أجد له تصنيفا، سوى عدم جدواها في حل النزاعات وإحلال السلام، كما تزعم الأهداف التي أنشئت من أجلها، وهو ما دل عليه بشكل صريح قول المنسق نفسه عندما صرح بالعبارة التالية "يبدو العالم غير قادر وحتى مترددا في التحرك" لوضع حد لهذه الحرب، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن المنظمة "الأممية" عبارة عن آلية من آليات خدمة مصالح الدول المالكة لحق النقض، وإصباغ الشرعية على ممارساتها، وكلها وبدون استثناء مساندة للكيان الصهيوني، الذي أنشئ مباشرة بعد إنشاء المنظمة.
اللهم إنك تعلم أننا لا نملك سوى الدعاء لإخواننا، اللهم إنك تجيب المضطر إذا دعاك وتكشف السوء، فاللهم انصرهم نصرا مؤزرا من عندك، واهزم أعداءك وأعداء الإنسانية، إنهم لا يعجزونك، إنك على كل شيء قدير وبالاستجابة جدير، آمين.
وسوم: العدد 1057